في تداعيات ما يحدث اليوم من تأجج الساحات العربية القريبة والبعيدة يصبح لمفردة الأمن أهمية كبرى بالنسبة للفرد وهو يفكر في تداعيات الفوضى المحتملة مرتبطة بفقدان الأمن, وبالنسبة للدولة في تفكيرها في إجراءات مكثفة للمحافظة على الأمن.
تمر في ذهني كل تقاطعات التقاءاتي ب»الأمن».. وأتأكد كم أنا مؤمنة بأهمية الأمن في حياتنا. إذ بدون الأمن لا يمكن أن يتحقق الاستقرار, بل يمسي من الممكن أن يتحول نعيم الوطن المستقر إلى جحيم الخوف وفوضى الانفلات.
أكاد أجزم أننا لو سألنا أي مواطن عن معنى كلمة «الأمن» لأعطانا معنى خاصاً به ومختلفاً عن غيره في بعض التفاصيل. فالأمن هو شعور عند هذا, وهو ظرف عند الآخر, وهو جهاز رسمي كالشرطة عند ثالث, وكالجيش عند رابع, وهو احتياطات وقائية عند خامس, وإجراءات ردعية عند سادس, وتصرفات حمائية عند سابع,. وتظل كلها ذات صيغة إيجابية عند المواطن مرتبطة بالحفاظ على السلامة والاستقرار إلا حالات المناوئين للنظام والمخالفين للقانون, فالأمن هو أيضاً العدو عند المجرمين، وزائر الليل عند المعارضين للأنظمة.
جاء أول استيعاب لي لمفهوم «الأمن» في سن صغيرة جداً, حين لاحظت أن والدتي عند سفر والدي تحرص على التأكد من إغلاق باب المنزل قبل الخلود إلى النوم ليلاً, وتساءلت لماذا كان هذا الإجراء ضرورياً؟ فجاءني الرد بأن ذلك يمنع أي شخص من التسلل إلى منزلنا في أثناء استسلامنا للنوم. عرفت عندها أن الأمن قد يكون احتياطاً من المجهول غير المرغوب فيه لنيته الاعتداء على حيزنا الخاص. ثم جاءت تجسد «الأمن» في رؤيتي حين انتظمت في المدرسة ولاحظت أن هناك حارس أمن ببدلة رسمية يقف خارج بوابة المبنى أثناء الدوام، ويمنع تلكؤ الطالبات في الخارج قبل الدخول, كما يتأكد أن ليس هناك أحد من التلميذات أو المدرسات في داخل المبنى قبل أن يغلق الأبواب عند الانصراف. وعدا حارس المدرسة كان هناك الشحاذ شبه العاري يجلس مستنداً إلى الجدار ماداً ساقيه النحيفتين وكفه ترتفع طالباً صدقة يجود بها العابرون. لكنه، حين لأي سبب يختفي العابرون من الطريق ويغيب الحارس عن موقعه, يفعل أشياء أخرى مشينة تزرع الخوف في قلوب الصغيرات مستعرضاً أجزاء شديدة الخصوصية من جسده؛ فكنت أنتظر عن بعد متوجسة من الاقتراب حتى يعود الحارس لموقعه, أو يمر أحد في الطريق, لأهرول إلى بوابة المدرسة قبل أن يخلو الطريق إلا مني وذلك المتحرش المستتر. ثم ربما بلغت عنه الإدارة أحد الطالبات الأكبر، ومنع رسمياً من الاقتراب من المدرسة واختفى من حياتي, وإن بقي في كوابيس ظلت تطاردني لسنوات عديدة. وفي كل عام دراسي كان علينا في كل المستويات الدراسية أن نتدرب على تطبيق إجراءات الخروج من المدرسة بالصورة الصحيحة في حالة حدوث حريق وضرورة إخلاء المبنى من كل الطالبات والمدرسات. وشرحت المشرفة التربوية وقتها أن ذلك من دواعي الأمن أيضاً. ثم تعرفت على «رجال الأمن» يوم حدثت جريمة سرقة في بيت أحد جيران الحي فاستدعوا الشرطة. وعلمت أن مسؤوليتهم التحقيق في ما حدث ومحاولة القبض على المشتبه في كونه الجاني, وشعرنا جميعاً بالأمن حين تم ذلك. ويوم تصاعدت الاضطرابات في المنطقة بعد العدوان الثلاثي على مصر, وتداعى المحتجون للمشاركة في الإضرابات والمظاهرات ضد الإنجليز وملأت الشرطة الشوارع لكي لا تتطور التجمعات إلى فوضى, وأعلن بعدها حظر التجول وانتشرت مدرعات الجيش في الشوارع لتتأكد من تطبيقه. فكانت إجراءات الأمن هنا حماية وقائية للأفراد من انفلات الآخرين.
ولكن الأمن ليس فقط حماية الآباء والحراس أو الشرطة أو الجيش لنا من خطر يتهددنا جسدياً أو مادياً؛ الأمن الأهم هو الأمن الفكري الذي يحمي المواطنين -الصغار بالذات- من استلاب قدرة التفكير المتزن والحكم السليم منتهياً بالاستسلام للأدلجة الموجهة. ذلك الأمن الفكري المصيري يتحقق عبر التنشئة الصحيحة في المنزل, ومناهج التعليم السليمة في المدارس, وبناء الوعي المجتمعي السليم من القولبة والانحراف.
هنا تأتي ضرورة التأكد من سلامة العملية التعليمية في المدارس, والتنشئة في المنازل والإرشاد في النوادي والمساجد.
الأمن لأي فرد هو أن ينتمي لوطن قوي يحميه بإجراءاته وأجهزته ومؤسساته وقوانينه. والأمن لأي وطن هو في صدق شعور أبنائه بالانتماء والرغبة في حمايته من أي عدوان خارجي أو انفلات داخلي.
وأسوء موقع من انعدام الأمن هو أن يكون الحال «حاميها حراميها» سواء داخل الأسرة أو برنامج التعليم أو الدولة ككل.