كانت الصحافة الحاضن الأول للغة، وكان الأدباء هم الذين يرأسونها، ويشرفون على موضوعاتها، ولم تكن تضيق بهم، ولا بنقدهم ومناظراتهم، ومعاركهم التي تدور في شتى مناحي الاختلاف الفكري، وإن جاء حول كلمة، أو عن ضبطها رفعا، أو نصبا، أو جرا, وكان المستفيد الأول من مادة الصحيفة هو القارئ, حيث هي أحد مصادر ذائقته وقاموسه، ومرجع لجزء من معارفه, في اللغة،والشعر, والأدب, بل في التاريخ أيضا، وهو يتعرف الأساليب الجميلة فيما يقرأ، مكتوبا في صفحاتها, ويتذوق اختلافاتها, فنميزها، مع قلة عدد أوراقها حينذاك..
وحين غرب الأدب عن الصحف، واحتوتها شموس الأنباء, وتخاطفتها أمواج الصور, والأحداث، تقدمت كثيرا في جوانب، إذ واكبت المتغيرات في كل شيء، وتطورت مهنيتها, وفنياتها, واستوعبت في موضوعاتها زمنها، غير أنها تأخرت كثيرا أيضا, وهي تتخلص تدريجيا من روح الأدب الماتع, الخلاق, والقوالب اللغوية الجميلة، ولم تعد في مجالها أحد المصادر المثرية للخبرات، في الأساليب واللغة، بمثل ما كان عليه ذلك الأثر الفاعل في ذائقة القارئ، ولحقت سرعة الزمن، وهشاشة حصاده، بما تقدمه، بمثل ما ألحقته السرعة نفسها بالتعليم، من ضعف في تدريس اللغة، ومن ثم في الكتابة بها.., وأخذ القارئ، كما أخذ الدارس يتلقيان الأساليب الضعيفة، ويتعاملان مع أبنية اللغة المفككة، وطرق التعبير السريعة، بما اعتراها من هشاشة, وتسطح، فتجمد قاموس الكتاب الصحفيين، وتحديدا عند من يكتبون المقالات الصحفية ذات الطابع الحركي, تلك المناسبة في أفكارها لمتطلبات الواقع، يعالجون بها الأحداث، والظواهر، وحاجات المجتمع. فهذا القاموس قد اكتظ بما فيه من الأخطاء اللغوية، والتراكيب المستحدثة بخللها، قد شاعت ألفاظه, ومصطلحاته فسادت، وكثير منها تقبله السمع، وألفته الذائقة، وهو أقرب لأساليب اليومي والمعاش.
من هنا امتدت يد التأثير في لسان القارئين, والناطقين العربية, باعا طويلا.., ذلك لأن الصحيفة مصدر الخبر، والخبر هو لقمة الصباح في جدول الإنسان اليومي. وهي قضاءُ فرضته طبيعة الحياة، ومنهج السلوك البشري فيها.
إن الحسنة التي حافظ عليها كتاب، ومشرفو الصحافة في عهودها الأولى، هي رصانة اللغة، وسلامة التعبير، وصحة التراكيب، أي نزاهة القاموس، حين كانت سمة القلم هي لغته..
إنهم كانوا حماة للغة، وإن جاء في موضوعاتهم عن تصريف المياه في مدينة جدة، كما عبر بأسلوبه الرفيع عزيز ضياء، أو رحلة بين مكة، والطائف في وعورة درب، كما كتب بلغته الجزلة أحمد قنديل، أو اقتراح بتوسعة مداخل الشوارع في مدينة الرياض القديمة, كما عبر بلغته الرصينة عبد الله بن إدريس،- إن لم تخني الذاكرة-
بينما جاءت صحافة العقود الأخيرة، معولا آخر يهد في لغة القوم، ويقوض الكثير فيها..
إنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم يفعلون، غير أنهم لا يفعلون ذلك مع اللغة.
فكتاب صحافة اليوم ليسوا حماتها على كل وجه..، بل أغلبهم نتاج زمن، أخذ في سيله قدرة اللسان، ناطقا ومكتوبا لدى السواد الأكثر من الكتاب، وكذلك من المتعلمين، بل الباحثين أيضا، بمثل ما هو ماض في جريانه، وسيأخذ الأكثر.
لذا فالصحافة، وهي تستقطب بما يكتب فيها العدد الأكبر من المتلقين، لن تستطيع تكوين الذائقة لديهم، ولا تقويم الكلمة الناطقة بها ألسنتهم.
فكرة هذا المقال، لم تأت عفو الخاطر، إنها تقف بين البلعوم والشفتين
أخرجَتْها دعوةٌ لي بإلقاء محاضرة في جامعة، عن «الصحافة واللغة «, فاخترت أن تكون تحت عنوان: «تأثير لغة كتاب الصحافة في قاموس الناشئة» .