ابتسام، في الثامنة عشرة من العمر، فاض بها هذا التكاثر في الأحداث على الشاشات، فاستأذنت والديها
أن يتوقفا عن المتابعة، إبتسام ترى أنها خدعت هي وكل الناس بما قيل لها عن الحياة، وعن مدنيتها وقيم التعايش الجميلة، وأخلاقيات التبادل النقي بين الناس فيها.,
الحياة التي ترى إبتسام أنها ليست خيِّرة، والناس فيها ليسوا سلاما.. هي هذه التي أمامها على الشاشات..
إبتسام قالت لوالديها إنها كانت تظن أن الحروب في زمننا لا تقوم إلا من أجل الفقر والمرض والجهل، وعلى التنافس للإنجاز، بمعنى الحروب السلمية المنتجة، لذا تقول: أتعلم وأنا أضع هدفا أمامي قد ساعدتماني في بنائه, أن أنال أرفع مستويات التحصيل، لأعطي أفضل حصيلة للبناء..
ولأن مفهوم الحرب الذي تكون في داخلها، هو محاربة كل ضعف يقصي المرء عن أهدافه السلمية، فلا ترضى بهذا النوع من الحروب التي نشاهد عنفوانها دمارا وموتا واعتداء,...
ولأن العالم هو قرية صغيرة كما فتحت عليه عينيها فرأته كذلك، فإن إبتسام تقول: إن الطائرة تحملنا لأبعد موقع على الأرض، والشاشات تقربنا من زوايا المدن، وتفاصيل الشوارع في أقصى قرية, وأضيق شعيب في أقاصي الأرض، وتوصلنا الهواتف، والفضاء الإلكتروني بأصوات، وأوجه، و عناوين، لذا نشأت هذه السنوات القليلة في عمري، وأنا أتخيل أن أتنقل لأي مكان بحرية, وثقة، و أمان لا أخشى طلقة نار، أو مقبض سجان,..
لكن، منذ شهرين هذه الحروب الداخلية في الدول المسلمة، تؤذي مشاعري تقول، وتكسر قناعاتي, وتحطم اطمئناني, وتبخر أحلامي, كيف تكون حربا داخلية في بلد جميع أهله ينتمون لهوية واحدة، ويحارب القائدُ فيه أفرادَه..؟ يقتلهم، ويحرق مصادر دخلهم، ويشتتهم، ويُنقض البيوت على رؤسهم، ولا يسمع لهم، بل يسمع لصوت نفسه، وتحكمه أهواؤه ورغائبه..؟
إبتسام تقول لهما: لو كنت يا والديَّ مكان القذافي هذا، لقدمت الكرسي فداء لقطرة دم تراق على أرض وطني..
وهي ترى أن الأرض والإنسان، إن لم يكنا لا يساويان مقعد هذا الرئيس فلا قيمة لهما..
ولأن ما تشاهده لا يؤكد هذه القيمة للإنسان والأرض فقد طلبت أبيها فقالت: «من فضلك يا أبي خذ جهاز التلفزيون وحطمه خارج البيت، ولا تأتي لنا بأي صحيفة، وأغلق جميع روابط الصور والأخبار على أجهزة الكمبيوتر، دعنا نحن فقط ندرس، ونكتب ما يتعلق بدروسنا، ننام بعد أن نلتم على سفرتنا، ونستيقظ لنذهب لمدارسنا، تبقى الحياة في داخلي كما كانت»..
كما أنها تؤكد على أن هذه الحرب غير متكافئة، وهي ليست نقية، فما تشاهده على الشاشات يجعلها تعتقد بأن هذه الحروب ليست للحياة السعيدة ,بل هي لزرع أسماء بشر فوق مقاعد يحلمون بها، و»أنا يا أبي أريد أن أشعر بسلام بسلام.., من فضلكما تعبت، اتركونا تدوم للحياة في صدورنا مشاعر اطمئنان، وفي عيوننا صور استقرار..»
أم إبتسام، أبدت خوفها على ابنتها التي أغلقت حجرتها وهي تبكي، دون حيلة لها إلا الاستشارة فيم تفعل معها..؟
أتمت حديثها لي وهي تقول: أكيد لا نستطيع أن نفعل ما تريد ابنتنا، لكن...؟
***
لكن..
هي ليست إبتسام وحدها التي يفزعها هذا على مستوى الإنسان ومقدرات الأرض..
ربما الكبار لديهم ما يتفكرون به في هذا الهم الإنساني الكبير،
ولابد لهم أن يشركوا الناشئة في التفكر بشكل أكثر إيجابية, مع أشد ما يحدث من سلبية في المشهد البشري
على الشاشات لهذا الواقع وفي ليبيا تحديدا..
فهذا الجيل ستمده الحياة بثقافات مختلفة، وحين تتكون لديهم القدرة على المتابعة، واستقبال ما يردهم فيتأملونه، ويفكرون فيه، ويبدون آراءهم عنه، تتكون لديهم الحصانات التي لا تجعلهم يذهبون نحوا مرضيا به، بل يحولون ما تتداعي به مشاعرهم إلى قدرة للفصل، بين التألم لحال الإنسان، وبين أن تكون مآسيه مشكلتهم، وهي ليست كذلك.