في مساء أمس تجدَّدت - بحمد الله - سعادة المسؤولين في مؤسسة الملك فيصل العالمية بعامة، وجائزة الملك فيصل العالمية بخاصة - وعلى رأسهم رئيس هيئتها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل - بالاحتفال بتسليمها للفائزين بها هذا العام..
وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين، وغمرت أولئك المسؤولين البهجة بتلبية دعوة من دعوا إلى ذلك الاحتفال ومشاركتهم بهجته وفرحه.
ومن المعلوم أن جائزة الملك فيصل العالمية ثمرة من ثمار مؤسسة الملك فيصل الخيرية الرائدة في أسلوب عملها وطريقته، وهي المؤسسة التي أنشأها - بتوفيق من الله - أبناء الملك فيصل - رحمه الله - وبناته عام 1396هـ - 1976م، ولقد سارت الجائزة منذ وضع نظامها عام 1977م سيراً رشيداً آملة تحقيق الأهداف المرجوة من إنشائها، وفي طليعتها الإسهام في نفع البشرية ورُقيها، وتقدير رواد العمل الخيري والباحثين في المجالات المعرفية المختلفة.
ولقد فاز بتلك الجائزة، منذ بداية منحها قبل اثنين وثلاثين عامًا، مئتان وتسعة من أربعين دولة، وللمرأة نصيب بالفوز بها، كما أن لها دوراً واضحاً فيها، محكمة أو مشاركة في لجان اختيار الفائزين بها، وهي اللجان التي لها الكلمة الفصل في منح الجائزة أو حجبها. وقد فاز بالجائزة - خلال مسيرتها الموفقة بحمد الله - تسع نساء، أربع في الأدب العربي هن: عائشة عبدالرحمن.. بنت الشاطئ، ووداد القاضي، وسلمى الحفار، ومكارم الغمري، وأربع في الطب هن: جانيت راولي، وفرانسو سنوسي، وسينثياكينون، وجوهان بيلتي، وواحدة في الدراسات الإسلامية هي: كرول هيلنبراند.
وربما قال قائل: إن عدد الفائزات بجائزة الملك فيصل العالمية قليل مقارنة بعدد الفائزين بها، لكن المتأمل فيما هو جار في العالم كله - وفي مُقدمته العالم الغربي الذي واكب تعليم الفتاة فيه تعليم الفتى بصفة عامة - يجد أن لا غرابة في ذلك، فما زالت نسبة تمثيل المرأة الغربية في المجال العلمي؛ سواء في التدريس الجامعي أو في العمل بمراكز البحوث محدوداً، ولذلك ليس بغريب أن يرى عدد الفائزات بجوائز علمية عالمية قليلاً مقارنة بعدد الفائزين بتلك الجوائز من الرجال، وجائزة الملك فيصل العالمية واحدة من هذه الجوائز.
ولكل فائز، أو فائزة، بتلك الجائزة ريادة متميزة في إنجاز الكثير مما ينفع الناس ويثري المعرفة الإنسانية العامة، ويُعمق المعرفة المتخصصة الدقيقة. وكل رائد من هؤلاء الروَّاد جدير بأن يُتحدث عن ريادته وإنجازاته، كما أن رائدة من تلك الرائدات يحسن الكلام عن ريادتها وإنجازاتها. ومع جدارة الحديث عن أولئك واستحسان الكلام عن هؤلاء فإن حيِّز المقالة لا يكفي للإشارة عن كل واحد أو واحدة، على أن ما يحمد الله عليه أن لجان الاختيار في الجائزة - في ضوء علمهم وفضل تقارير الحكام الذين درسوا الأعمال المرشحة دراسة وافية - كثيراً ما حالفها التوفيق لتصبح رائدة هي الأخرى في اختيار الروَّاد. ولعل مما يدل على ذلك أن خمسة عشر ممن فازوا بها نالوا بعد ذلك جائزة نوبل - مثلاً - في العلوم أو الطب، إضافة إلى آخرين فازوا بها ثم نالوا جوائز كبيرة لا تقل مكانة عن جائزة نوبل، مثل جائزة لاسكار الأمريكية في الطب.
أما الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية هذا العام، وهم من احتفل بتسليمهم إياها البارحة، فكان كل واحد منهم رائداً في مجال عطائه، وقد فاز بها في فرع خدمة الإسلام دولة الرئيس عبدالله أحمد بدوي، رئيس وزراء ماليزيا سابقًا؛ وذلك لما قدمه من خدمات جليلة لبلاده المسلمة بخاصة؛ تعزيزاً لقدرتها الاقتصادية، وتشجيعاً للدراسات الإسلامية فيها، وتطويراً لإداراتها المختلفة. وفاز بها في مجال الدراسات الإسلامية، وموضوعها، هذا العام: «الدراسات التي عنيت بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية في العالم الإسلامي من القرن العاشر الهجري إلى نهاية القرن الثالث عشر من الهجرة» كل من: البروفيسور خليل إبراهيم إينالجك، التركي الجنسية، والبروفيسور محمد عدنان البخيت، الأردني الجنسية. أما الأول منهما فمنح إياها عن كتابه: «التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية» - الجزء الأول- الذي يُمثل جهوده العلمية لمدة تزيد على ستة عقود، مؤسساً بذلك مدرسة جديدة، ومعتمداً على المصادر الأولية الوثائقية بطريقة استقرائية، ومستفيداً من الأسلوب الكمي. وأما ثاني الفائزين وهو محمد عدنان البخيت، فمنح الجائزة عن كتابه: «دراسات في تاريخ بلاد الشام»، بمجلداته الثلاثة، التي أحاط فيها بجوانب بالغة الأهمية من التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لفلسطين والأردن وسورية ولبنان؛ مستقياً مادته العلمية من وثائق الأرشيف العثماني وسجلات المحاكم الشرعية والكنائس، إضافة إلى المصادر التقليدية، ومستخدماً الأسلوب الإحصائي البياني، ومستخلصًا لمعلومات جديدة مؤثرة، وبذلك أصبح مؤسساً لمدرسة عربية في المجال الذي درسه.
أما جائزة الملك فيصل العالمية للطب - وموضوعها: العلاج بالخلايا الجذعية - ففاز بها كل من: البروفيسور جيمس تومسون، الأمريكي الجنسية، والبروفيسور شينيا ياماناكا، الياباني الجنسية. وقد قام الأول منهما ببحوث رائدة مكنته من الحصول على خلايا جذعية من أجنة المقدمات غير البشرية في عام 1995م، ومن أجنة الإنسان في عام 1998م، ونجح عام 2007م، في برمجة الخلايا الجلدية البالغة في الإنسان لتتحول إلى خلايا حنينية متعددة الأغراض شبيهة في وظائفها بالخلايات الجذعية. وقد أدى ذلك إلى فتح آفاق واسعة في مجال بحوث الخلايا الجذعية، وشجع العديد من الباحثين على القيام ببحوث حول إمكانية استخدام الخلايا الجذعية لعلاج بعض الأمراض.
وقال الفائز الثاني بجائزة الطب، وهو البروفيسور ياماناكا، ببرمجة أرومات الخلايا الليفية من الفئران عام 2006م، ثم من جلد الإنسان عام 2007م، وذلك بتعديلها وراثيًا لتصبح خلايا متعددة الإمكانيات تشبه الخلايا الجذعية، للاستفادة منها في البحوث المتعلقة بالاستخدام الطبي للخلايا الجذعية.
أما جائزة الملك فيصل العالمية للعلوم - وموضوعها هذا العام الكيمياء - ففاز بها عالمان أميريكان أولهما البروفيسور جورج وايتسايدز، وثانيهما البروفيسور ريتشارد زير. وقد حقق الأول تطوراً عظيماً في مجال التجميع الذاتي للجزئيات مستخدمًا خواص سطوح الجزئيات الكبيرة مع ما توصل إليه من نتائج علمية أخرى في مجالات الجزئيات الإلكترونية وعلم المادة وعلم الحياة وربط علم النانو مع الأنظمة الحيوية للاستفادة من ذلك في صناعة الأدوية وتطوير طرق زهيدة التكلفة في التشخيص الطبي. وامتاز ثاني الفائزين، وهو البروفيسور زير بإسهاماته الأساسية في دراسة ديناميكية الجزئيات والتفاعلات الكيميائية، مطوراً طريقة بالغة الحساسية باستخدام تقنية للصف المحفزة بواسطة أشعة الليزر في مجالات عديدة يمتد استخدامها من الكيمياء التحليية وعلم الأحياء الجزئية إلى الفيزياء الكونية.
وفي ختام هذه المقالة يقول كاتبها الذي حظه من العلم قليل، وقليل جداً: أدام الله سعادة الجميع، وأدام لوطننا المعطاء أمنه واستقراره.