(الحلقة الأولى)
قبل 85 عاماً وبالتحديد في يوم 13 من ذي الحجة من عام 1346هـ توفي إلى رحمة الله الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آخر من لُقب بالإمام من الأئمة آل سعود الذين سبقوه. وكانت وفاته - رحمه الله - في مدينة الرياض، العاصمة، المدينة التي ولد فيها، بعد أن اتخذ منها جده الإمام تركي بن عبد الله عاصمة للدولة السعودية الثانية. وكانت ولادة الإمام عبد الرحمن - رحمه الله - بتاريخ.........
وهو الإمام أو الحاكم الثاني عشر في سلسلة حكام الدولة السعودية الأولى والثانية، وهو الذي انتهت الدولة السعودية الثانية في عهده، وعاش - رحمه الله - حتى شهد ولادة الدولة السعودية الثالثة على يد ابنه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وكانت له - رحمه الله - مساهمة الأب الفخور بابنه في بناء دولة آل سعود الحديثة.
كان الملك عبد العزيز حين وفاة والده في مكة المكرمة - كعادته في معظم الأعوام منذ ضم الحجاز إلى حكمه في عام 1343هـ - للإشراف على الحج، والالتقاء بكبار الشخصيات الإسلامية التي تفد إلى مكة لأداء فريضة الحج. وكان - رحمه الله - يقيم احتفالات كبرى يحضرها كبار الحجاج من أنحاء العالم الإسلامي، إضافة إلى كبار شخصيات الحجاز القادمين إليها من بقية أنحاء المملكة.
وفي ذلك العام، أي عام 1346هـ، لم يمض على دخول الملك عبد العزيز الحجاز وضمها إلى حكمة سوى ثلاث سنوات. وكان يجد الحج مناسبة كبرى للالتقاء بكبار شخصيات العالم الإسلامي لشرح ما تقوم به حكومته من خدمة لحجاج بيت الله الحرام وتفانيه في تسهيل الخدمات اللازمة للحجاج، وتأمين الطرق إلى مكة والسهر على سلامة الحجاج أثناء أداء مناسكهم.
كان لخبر وفاة والده وقع الصاعقة المدوية على قلب ابن لوالده مكانة عظيمة في نفسه. فقد عُرف الملك عبد العزيز بحبه الشديد لوالده وتقديره واحترامه، وطاعته والتفاني في خدمته، وكسب رضاه، ما جعله يفوق الوصف بشهادة كل من يعرف علاقة هذا الابن البار بهذا الوالد الوقور.
كما هو معروف لم تكن علاقة الملك عبد العزيز بوالده علاقة تقليدية تربط الابن بأبيه، بل كانت أكثر من ذلك بكثير، فقد كان ما يربط بينهما من علاقة تتجاوز علاقة القربى إلى علاقة تقرير مصير أسرة حاكمة احتلت الصدارة في أوضاع الجزيرة العربية منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، ثم علاقة تقرير مصير وطن تقطعت أوصاله وفرَّقت أهله الإحن والمشاحنات، وأصبحت أطرافه مقصداً لكل طامع، ووسطه مسرحاً للفتن ولم يكن أمام أبناء وطن - إذا ظل هناك وطن - من أمل في الخلاص من كل ما يعيشونه من مصائب ومصاعب سوى انتظار من سيكون على أيديهم الخلاص، ومن حكمت الظروف وضخامة التحديات عليهم بالرحيل من وطن لم يعد وطناً بعد رحيلهم، بل تحول إلى بقايا أوطان كل وطن (بلدة أو قرية أو قبيلة) في حروب مستمرة بعضها ضد بعض، القوي ينهب الضعيف، والقادر من يستطيع الهرب إلى مكان خارج ما تبقى من وطن يؤويه ويضمن له الحد الأدنى من لقمة العيش، ولكن الأمل لم يمت في تلك النفوس المعذبة بعودة من ستكون على أيديهم عودة الوطن إلى وحدته، والنفوس إلى طمأنينتها، والإخوة المتحاربين إلى سلام يوحد صفوفهم، وإلى هدف سام يعملون جميعاً من أجل تحقيقه.
كان ذلك الأمل الموعود متجسّداً في إمام هو آخر الأئمة لدولة عظيمة مزقتها الحروب، وتضافرت عليها الخطوب، ترك وطنه وعاصمة ملكه وملك أجداده من قبله مع أبنائه وإخوانه وأبناء عمومته إلى منفاهم الاختياري، وليس لهم من شاغل سوى إعداد العدة، وتهيئة النفوس، واختيار التوقيت المناسب لعودة معقودة عليها الآمال بإجلاء الغمة، واستعادة المجد، وتحقيق آمال من كان ينتظرون عودة المنقذ وطموحاتهم.
لم يكن عبد العزيز قد تجاوز الثانية عشرة من عمره عند مغادرة الرياض في صحبة والده في رحلة مؤلمة شديدة الوطأة على نفس شاب في هذه السن مرافقاً لوالد يحمل كل هموم نجد، وهموم أسرته، وهموم المصير المجهول. جال الابن مع والده متنقلاً في أكثر من موطن من مواطن البادية، خاصة البادية الشرقية بادية العجمان، وبني خالد، وبني مرة، وبني هاجر، كانوا في خلالها محل كل التقدير والاحترام والولاء من مشايخ وأبناء هذه القبائل، قبل أن تحط بهم عصا الترحال في المحطة الأخيرة التي كانت هي الكويت. كانت فترة المكوث في الصحراء مرحلة، مع قصرها، مهمة في التكوين الذهني والمعرفي والتجلد والصبر والإعداد لمرحلة المستقبل لدى الأمير الشاب عبد العزيز الذي قام خلالها مع حداثة سنه بمهام كلفه بها والده إلى كل من أمراء البحرين وقطر، وقابل شخصيات بارزة من الزعامات القبلية في مجالس الأمراء آل خليفة وآل ثاني كانت بداية التنبؤ له بمستقبل يحقق من خلاله ما قد يزيد على ما حققه أسلافه من الحكام الكبار.
أثناء التنقل في الصحراء والإقامة في المنفى الاختياري في الكويت الذي دام أكثر من إحدى عشرة سنة كان الأمير الشاب يشاطر والده همومه، بل كان يعمل بكل أمانة وصدق أن يحمل عنه كل همّه. إن عشر سنوات من التنقل والمنفى خلقت روحاً من العلاقة قل أن تجد لها مثيلاً بين ابن ووالده. والد عركته الحياة بخبرتها وبمتقلباتها، وشاب يحمل روحاً تتقد حماساً، ولكن بروية تفوق ما تحمله نفس الشيوخ من حكمة. كان عبد العزيز لا يفارق والده رغبة في التخفيف عن همومه والسماع إلى نصائحه واستقبال ضيوفه وغالبيتهم من بادية وحاضرة نجد يطلع من خلالهم على أخبار الوطن وأوضاع أهله إلا في أوقات ثلاثة:
الأول: وقت يخصص تقريباً كل يوم لحضور مجلس الشيخ مبارك شيخ الكويت العظيم؛ وكان عبد العزيز يعتبره حصة يومية في علوم السياسة والإدارة والتعامل مع الأحداث، ومعرفة الرجال. وكان الشيخ مبارك شديد الإعجاب بعبد العزيز لم يكن عبد العزيز يحضر للحديث ولكن للاستماع؛ وكان الشيخ مبارك يسأل عبد العزيز رأيه في بعض ما كان يدور في مجلسه من حديث. وكان عبد العزيز راقياً في إبداء رأيه ينم عن شخصية يرقبها مستقبل حافل بالأحداث.
الثاني: تخصيص وقت من النهار للذهاب إلى الساحل وبالقرب من الميناء حيث يخلو بنفسه في مشاهدة البحر والسفن غادية، رائحة وكأنه يقول لقد أوصلتني المقادير إلى هذا المنفى، فمتى سيأتي يوم مغادرة هذا المكان كما تغادر السفن إلى موانئ أوطانها.
والثالث: بعد أن يؤدي صلاة العشاء مع والده والبقاء في مجلسه إلى أن يغادره معظم مرتاديه، فيرتدي بشته ويأخذ عصاه ويستأذن والده، فيأذن له. وحينما تكررت منه هذه العادة الليلية - وكان عبد العزيز حينذاك في سن المراهقة ساورت الشكوك قلب الوالد المحب المشغول على أحب أولاده إلى قلبه فيتساءل بينه وبين نفسه ترى أين يذهب عبد العزيز في مثل هذا الوقت من الليل. وضاقت نفسه بحمل هذا الهمّ، ولاحظ أحد خواص الإمام قلقه وعدم ارتياحه ورغبته في معرفة إلى أين يذهب عبد العزيز؟ ففاتحه هذا الرجل المحب لكليهما، والمخلص في خدمتهما قائلاً: أرى ما ينتابك من قلق عند خروج عبد العزيز فهل تسمح لي أن أسبره، أي أعرف أين يذهب فقبلَ الوالد على مضض، لأن عبد العزيز في نظره لا يرقى إليه أي شك. تتبعه الرجل من بعيد فوجد أنه لا يذهب إلى المدينة وإنما إلى خارجها؛ وفي برحة مكسوة بالرمل يركز عبد العزيز عصاه، ويضع عليها بشته ثم يتجه إلى القبلة مصلياً يطيل في صلاته متضرعاً إلى الله ويبقى على هذه الحال طويلاً ويُسمع له نحيب خافت وهو يدعو ربه بكل خشوع.
وهكذا استمرت حاله عدة ليال والرجل يراقبه عن بعد فأصبح على يقين مما يرى، وأصبح قلبه مطمئناً بأن يخبر والده الذي زاد به القلق نظراً لتأخر الرجل الذي ائتمنه على معرفة إلى أين يذهب عبد العزيز في كل ليلة. اطمأن قلب الوالد فلم يفاتح عبد العزيز في هذا الأمر، لأن هذا قليل مما يأمله من عبد العزيز.
هذه السنوات الصعبة في حياة والد وابنه وما خلفته في نفس كل منهما للآخر عمَّقت هذه الرابطة القوية بينهما، بالإضافة إلى العامل المهم في نفس ولد مؤمن بحق الوالد في الطاعة والخدمة والمحبة والاحترام، وهو والد جدير بكل هذا.
تذكر كل المصادر الشفوية لأناس عاصروا الإمام وابنه عبد العزيز، وكذا المصادر المكتوبة، وتقارير الرحالة والسياسيين الأجانب، وكذلك روايات أبناء الملك عبد العزيز، الكبار الذين عايشوا، في وقت مبكر، الإمام والملك عبد العزيز وما نقلت إليهم من روايات كبار السن عمق العلاقة بين الإمام عبد الرحمن وابنه الأمير الملك عبد العزيز فيما بعد ومحبة الملك عبد العزيز لوالده واحترامه له، التفاني في خدمته حتى آخر لحظة من حياته.
يذكر السياسي والرحالة والمؤرخ عبد الله فيلبي المكانة الراقية من الاحترام والتقدير الذي أكنه الملك عبد العزيز لوالده الإمام عبد الرحمن وذلك في أول لقاء جمعه مع الملك عبد العزيز في أول زيارة سياسية له إلى الرياض عام 1917م، وكيف قابل الإمام عبد الرحمن في صالة الاستقبال التي قابل فيها الملك عبد العزيز لأول مرة، ولم يكن قبل هذا على معرفة بالملك عبد العزيز. يذكر أنه دخل قاعة الاستقبال وقدمه المسئول عن البرتوكول للجلوس في مقدمة المجلس إلى جانب الإمام عبد الرحمن، ولم يكن فيلبي يعرف أن الملك عبد العزيز كان من ضمن الحاضرين، لأنه كان جالساً على الأرض بالقرب من الباب احتراماً وتقديراً لوالده، والاستمتاع بقراءة النص الذي أورده عبد الله فيلبي، وهو حينذاك لم يدخل الإسلام بعد، وكان اسمه سانت جون فيلبي؛ أحب أن أشرك القراء في هذا الوصف الشيق للاحترام المنقطع النظير الذي يكنه عبد العزيز لوالده. وربما كان فيلبي هو آخر أجنبي يقابل الإمام عبد الرحمن، كما أنه - كما يذكر - ربما كان أول أو آخر أجنبي يرى الإمام وابنه الأمير في مجلس واحد (1). أما كيف حدث ذلك فأتركه لما ذكره فيلبي منذ دخوله قاعة الاستقبال في قصر الحكم. يقول: «تركنا أحذيتنا عند عتبة الدار، ثم دخلنا إلى غرفة واسعة مربعة الشكل حيث قوبلنا بترحاب شديد من جانب رجل متوسط الطول، يميل إلى البدانة نوعاً ما، وذي ملامح حادة وعينين تشعان ذكاءً، قادنا إلى المجلس المجهز بالوسائد في إحدى جنبات الغرفة بالقرب من إحدى النوافذ المفتوحة. وبصورة أقرب ما تكون إلى العفوية تعرفت على وجود شخص آخر في الغرفة كان مختفياً عند دخولنا إليها وراء عمود الدعم الموجود في وسط الغرفة، وكان شكله يميل إلى الطابع الرسمي السيادي، وكان طويلاً ومنتصب القامة، يرتدي ثياباً مسدلة تكسوها طبقة بيضاء من عباءة ذات لون بني خفيف، وكان ذا وجه يميل إلى اللطف والرجولة، وكان يقف بعيداً وكان ذلك بسبب الحياء والتواضع. وكان هذا هو ابن سعود شخصياً، عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، إمام المذهب الوهابي، وحاكم بلاد الوهابيين، أما الآخر فكان والده (عبد الرحمن) الذي كان يُطلق عليه من باب اللباقة لقب (الإمام). لم أشهد الأب والابن بعد ذلك مع بعضهما بعضاً أبداً، وأعتبر أننا كنا محظوظين لمناسبة وصولنا في يوم الجمعة، وبالتالي فقد حظينا بمشاهدة اثنتين من خصوصيات النظام الوهابي هما إغلاق بوابات المدينة خلال فترة أداء الصلاة، والتقيد الصارم بمبادئ الأسرة وتقاليدها في ظروف يكون من الصعب أن تجد لها مثيلاً. كان الإمام المتقدم في السن قد درج في أيامه الأخيرة، وبعد أن تقدم به العمر كثيراً أن يقوم في كل جمعة بعد أداء الصلاة بأن يخرج من العزلة التي تحيط به في داره ليسجل زيارة رسمية لابنه في القصر، وفي يوم الجمعة المذكورة كان قد تصادف وصولنا في نفس لحظة زيارته، ولهذا السبب فقد تم التعامل مع قدومنا كممثلين للحكومة البريطانية مرسلين إلى حاكم البلاد، حيث تم استقبالنا واستضافتنا، في أول مرة لوصولنا، في صالة استقبال الزوار بواسطة والده، في نفس الوقت الذي جلس فيه ابن سعود منزوياً في ركن قصي وهو يذل نفسه ويتواضع طاعة لما أمر به الله. وفي الهند سبق لي أن شاهدت أباً وابنه في نفس الغرفة، أحدهما يجلس إلى الأرض خالفاً رجليه، والثاني، وهو محامٍ تلقى تعليمه في إحدى الجامعات البريطانية، يغوص بارتياح في كرسي جلوس وثير وهو يدير دفة الحديث، وكان أحدهما (الابن)، فقد كان مستحياً قليلاً فقط من والده، أما في بلاد الوهابيين فقد كانوا ما زالوا متخلفين كثيراً عن تلك المرحلة من التحضر، وكانت طقوس وشرائع العالم القديم ما زالت سائدة ومسيطرة بقوة، وبنفس القدر على العاهل والتابع. ولا يقوم الابن متعمداً بالدخول في الغرفة الأعلى إذا كان والده موجوداً في الغرفة الأدنى منها، وبحضور كافة الجماهير يتخذ مجلسه في أدنى مكان عندما يكون أبوه موجوداً.
لم يعطنا فيلبي وصفاً لشخصية الإمام عبد الرحمن على غير عادته، ربما أن مفاجأة اللقاء بالإمام وهو ما لم يكن يتوقعه، والظرف الذي تم فيه اللقاء لم يمكنه من ذلك. ولكن ما فات على فيلبي لم يفت على الرحالة الدنماركي باركلي رونكيير الذي عند وصوله إلى مدينة الرياض في 28 مارس 1912م، أي قبل وجود فيلبي في الرياض بخمس سنوات، وهو من الرحالة أو المندوبين الأجانب القلائل الذين زاروا الرياض بعد استعادتها على يد الملك عبد العزيز في عام 1902م إن لم يكن أولهم. ولكن زيارته للرياض التي كان يأمل خلالها في مقابلة الملك عبدالعزيز، الذي كان خارج المدينة في حملة عسكرية، لم تدم أكثر من يوم واحد تمكن خلال هذه الزيارة القصيرة من مقابلة الإمام عبد الرحمن الذي كان يقوم نيابة عن ولده عبد العزيز بإدارتها أثناء غيابه. تمكن هذا الرحالة الشاب من تقديم وصف دقيق للإمام يتفق - إلى حد كبير - مع الصورة الوحيدة التي نعرفها للإمام عبد الرحمن والتي التقطها له قائد السفينة الفرنسية «كاتينيه» في شتاء عام 1901-1902م في الكويت، وهو العام الذي استعاد فيه الملك عبد العزيز الرياض.
وصف الرحالة الدنماركي الإمام عبد الرحمن بقوله: «إن عبد الرحمن عظيم الوسامة: يحمل مظهره الكلي روح المغامرة، ونبل الفخامة، ويوحي للناظر إليه أنه بطل قصة حقيقية من قصص ألف ليلة وليلة. إنه لطيف، ولكنه جاد ووقور، له عينا صقر، ولحية بيضاء» (2) انتهى وصف الرحالة.
أما القضايا التي تحدث فيها الإمام فقد أوردها الرحالة فيما يلي: «تحدثنا ونحن نشرب القهوة والشاي بالتناوب عن الكويت، وعن غزوة عبد العزيز، وعن مطامع إنجلترا وتركيا في الجزيرة العربية، والحرب التركية - الإيطالية، وأخيراً عن نفوذ مختلف الدول الأوروبية، حول النقطة الأخيرة، وبخاصة فيما يخص سياستها الأفريقية - الآسيوية، لم أستطع إلا أن أؤكد رأي الإمام الأكيد بنفوذ الإمبراطورية البريطانية».
كانت ثقة الإمام عبد الرحمن في ابنه عبد العزيز ثقة مطلقة. فمنذ استعادة الملك عبد العزيز الرياض عام 1319-1902م وقدوم الإمام عبد الرحمن من الكويت بعد هذا الانتصار المبهر الذي حققه ابنه البطل كان الإمام عبد الرحمن الذي احتفظ بلقب الإمام أوكل الأمر كله إلى ابنه عبد العزيز أميراً للدولة وقائداً لجيوشها؛ ولكن ذلك لم يكن يعني أنه تخلى عن القيام بأدوار مشهودة في مناصرة ومساعدة ابنه بالرأي والمشورة والمشاركة في كثير من المهمات السياسية والإدارية مثل توجهه إلى القصيم بتاريخ 22 ذي الحجة عام 1323هـ لمقابلة القائد العثماني المشير فيضي باشا المكلف من الدولة العثمانية للفصل في النزاع بين الملك عبد العزيز وابن رشيد حول تبعية القصيم التي أصبحت فعلياً تحت حكم الملك عبد العزيز منذ عام 1322هـ بعد سيطرته عليها بإلحاق هزيمة منكرة بقوة ابن رشيد والمفرزات العثمانية التي كانت تسانده. وكان الإمام عبد الرحمن صاحب الخبرة الطويلة في التعامل مع العثمانيين منذ تدخلهم في الشأن الداخلي السعودي الذي يعود إلى عام 1288هـ، ذلك التدخل الذي أدى إلى احتلال الأحساء وسلخها من الحكم السعودي. على أثر اندلاع الفتنة بين أبناء الإمام فيصل بن تركي بعد وفاته عام 1282هـ، واستغلال أطراف عديدة، بمن فيهم العثمانيون أنفسهم هذه الفتنة للتدخل في شئون نجد. وكان الإمام عبد الرحمن أكثر إخوته اكتواء بنار الفتنة التي أدت في النهاية إلى خروجه للمنفى، ذلك الحدث المؤلم الذي كان نذيراً بنهاية الدولة السعودية الثانية.
وكان الملك عبد العزيز يدرك أن المعضلة الكبرى التي كان عليه أن يتعامل معها بكل ما أُوتي من حنكة ومهارة سياسية هي تجنب الصدام مع الدولة العثمانية التي كان نفوذها يحيط به من كل جهة؛ مع العلم أنه يدرك أنها لم تكن تملك القوة الكافية إلا أنها تملك الشرعية لتحريك مخالبها في بغداد والبصرة وحائل ومكة، وربما بعض الأدوات داخل نجد نفسها في الوقوف ضد طموحات الملك عبد العزيز ومشروعه الوحدوي.
كانت لهزيمة القوة العثمانية المساندة لابن الرشيد في القصيم على يد الملك عبد العزيز - التي لم تكن لدى الملك عبد العزيز رغبة في مواجهتها، لأنه كان يدرك أنها زُجّ بها من قبل أصحاب الأهواء - أصداء ذات أثر سلبي في الأوساط العثمانية، واستغلت لتأليب الدولة على الملك عبد العزيز؛ مع أن الملك تعامل مع ذلك الجيش المهزوم تعاملاً لا يقوم به إلا ذوو النفوس العالية من القادة الكبار. وتعويضاً عن تلك الهزيمة جهزت الدولة العثمانية حملة عسكرية جديدة بقيادة أكفأ جنرالاتها وهو المشير فيضي باشا المشهود له بالقسوة في التعامل مع الثورات المتعاقبة في منطقة عسير واليمن ضد الدولة العثمانية؛ فقاد جيشاً جديداً إلى منطقة القصيم، على أمل أن يضع حداً لنفوذ الملك عبد العزيز إن لم يكن يتطلع إلى اجتثاث الوجود السعودي كلية، وكان هذا أمراً بعيد المنال، حيث في القصيم واجه فيضي باشا الواقع.
أولاً: اكتشف عدم مقدرة جيشه في مواجهات في منطقة معزولة شديدة الصعوبة في مناخها، قليلة في مواردها، عديمة الجدوى في خدمة الإستراتيجية العثمانية.
ثانياً: اكتشف أن الملك عبد العزيز لا يعلن العداء للدولة العثمانية ولا عصيان سلطانها، وعلى هذا طلب مقابلة الإمام عبد الرحمن لعقد اتفاق معه. يحدد طبيعة العلاقة بين العثمانيين والسعوديين.
وكان المشير فيضي باشا أكثر حرصاً على أن تكون المقابلة بينه وبين الإمام عبد الرحمن وليس مع عبد العزيز؛ وكان أبرز شروط المشير فيضي باشا أن يبرهن الإمام على صدق طاعته للسلطان العثماني علماً بأن هذا أمر قد أكده الملك عبد العزيز في أكثر من خطاب بعث به إلى السلطان عبد الحميد.(3)
ولكن الإمام وخلفه ابنه عبد العزيز كانا يخشيان غدر المشير بإلحاق ما يخشى أذى بالإمام إما بالقتل، أو أخذه رهينة. وكان الملك عبد العزيز لديه الاستعداد الكامل للتضحية بنفسه حتى الموت، وفقدان كل شيء من أجل سلامة الإمام، فطلبا من المشير كتاب أمان باسمه وباسم السلطان عبد الحميد؛ فكتب المشير إلى الإمام عبد الرحمن خطاباً يتضمن ما طلباه. قال فيه: فلكم منا أمان الله والسلطان، وعهد الله ورسوله فأقدموا فلا بأس عليكم ولا إضرار ولا ينالكم منا سوء ولا مكروه ولا أغدار واعتمدوا وبالله الاعتماد.(4) ما دار وما حدث وما ترتب عليه في هذا الاجتماع ربما يكون الحديث عنه في مكان آخر.
كما كان للإمام عبد الرحمن مشاركات في الإدارة، خصوصاً في الإدارة المالية حين كان الملك عبد العزيز منشغلاً في إدارة المعارك والإدارة السياسية؛ وكانت الموارد المالية مهمة جداً ولكنها شحيحة جداً أيضاً ويجب إدارة المال حتى وإن كان قليلاً بحنكة ونزاهة عالية. وتوضح رسالة بعث بها الإمام إلى أحد عمال بيت المال في جهة وادي الدواسر والأفلاج عبد الرحمن بن مطلقة يحثه على الحرص والحفاظ على موارد بيت المال والمتمثلة في زكاة التمور والحبوب وزكاة الماشية والنكالات والباج، وهي كلمة تعني نوعا من أنواع الضرائب على التجارة أثناء انتقالها من مكان لآخر. وتوضح رسالة الإمام ضرورة التنسيق بين عامل بيت المال وجباة الزكاة وأمير الأفلاج، حينذاك، أحمد السديري يعاونه أحد أقربائه اسمه سعد السديري ويبدو أنه كان المسئول المالي في هذه المنطقة. أو مساعد الأمير في بلدة من بلدان جنوب الرياض.
ويظهر من هذه الرسائل والوصايا حس الإمام الإيماني، فليس هناك رقيب على الإنسان في أداء الأمانة والحرص عليها مثل قوة الإيمان، ويقظة الضمير المرتكز على مخافة الله سبحانه وتعالى. فقد قال: ومن طرف سعد السديري أضبط الذي دخل عليه من باج ومن نكال وعرفنا به تراها بينك وبينه شهادة أن لا إله إلا الله إنك ما تغبي شيء من جميع ما دخل عليه وفي ذمتك ومع هذا تحلف لنا أنك ما غبيت شيء مما دخل عليه.. «وأنه ما أخذ شيء من الزكاة غير الذي للقصر» ويختم رسالته بقوله: المقصود إنك تبين جميع ما دخل عليه وهذا شيء حاطينه في ذمتك. الرسالة مؤرخة في 24 ذي الحجة 1329هـ ومختومة في نهايتها بختم الإمام(5).
الإمام عبد الرحمن يرغب في أداء فريضة الحج
كانت هناك عقبات تحول بين أداء أهل نجد فريضة الحج؛ وهي عقبات فرضتها الدولة العثمانية؛ ثم ما لبثت أن شددت تلك العقبات إبان فترة حكم الشريف الحسين بن علي الذي تولى مقاليد السلطة في الحجاز أميراً معيناً من قبل حكومة الاتحاد والترقي التركية في عام 1908م؛ وكذلك بعد ثورته عليهم عام 1915م وارتفاع شدة الحساسية لديه جراء تنامي صعود نجم الملك عبد العزيز الذي ما فتئ يحقق انتصاراً تلو آخر، وبخاصة على خصمه اللدود في نجد ابن رشيد، واستعادة سيطرته على الأحساء عام 1331هـ، وتوقيعه على اتفاقية بينه وبين الحكومة العثمانية 1913م، ثم الاعتراف به حاكماً على نجد والأحساء والقطيف، وعلى كافة عشائر نجد، ودخول أهم القيادات الجنوبية - ممثلة في شيخ قحطان محمد بن دليم في عام 1335هـ وتبعه شيخ شهران سعيد بن مشيط - في مراسلات مع الملك عبد العزيز بهدف تنسيق المواقف في تحقيق الوحدة المنشودة.
أمام هذه الانتصارات، وتطلعات الملك عبد العزيز لتوسيع دائرة نفوذه زاد انزعاج الهاشميين في الحجاز، مما أدى إلى تضييق الخناق على الحجاج النجديين، بل وصل الأمر إلى منعهم كلية في فترات لاحقة؛ واستمر هذا الأمر إلى سنة 1342هـ، وهي السنة التي قرر فيها الملك عبد العزيز عقد مؤتمره الشهير مع القيادات والزعامات النجدية الذين طالما ألحوا على الملك عبد العزيز في الحصول على حقهم المشروع في أداء فريضة الحج، وهم يمتلكون القدرة على ذلك. إلا أن الملك - لاعتبارات سياسية - كان يقنعهم بأنه لم يحن الوقت بعد.
إلا أن كل الاعتبارات والتحفظات سقطت أمام تحقيق رغبة الإمام عبد الرحمن الذي كان حريصاً على القيام بأداء فريضة الحج، خوفاً أن يسبق القدر قبل أداء هذه الفريضة. وتحقيقاً لهذه الرغبة - والحرب العالمية الأولى كانت في أوجها، وكل من القوتين المتحاربتين - الدولة العثمانية وبريطانيا - كان الملك عبد العزيز بحنكته قد وضع نفسه على الحياد في حالة اندلاع حرب، وذلك من خلال توقيعه على اتفاقه مع العثمانيين قبل الحرب بسنة واحدة بأنه في حالة اندلاع حرب بين الدولة العثمانية ودولة أخرى بأنه لا ينحاز إلى الدولة المحاربة. كما وقّع مع بريطانيا في السنة الأولى من اندلاع الحرب اتفاقية ضمن نصوصها ألا يقف إلى جانب دولة في حالة حرب مع الدولة البريطانية. هاتان الاتفاقيتان وما تضمنتاه من حق الملك عبد العزيز الوقوف على الحياد مكنتاه من استغلال سنوات الحرب التي دامت أربع سنوات من بسط نفوذه على معظم ما أصبح تتشكّل منه المملكة العربية السعودية فيما بعد، بينما دخل خصومه في تحالفات مع القوى المتصارعة، ووثقوا بوعودهم فخسروا جميعهم، سواء كان أولئك الذين كانوا في الجانب المنتصر أو الجانب المنهزم.
هذه الحالة من الحياد مكّنت الملك عبد العزيز من الكتابة إلى السفير أو القنصل البريطاني أو الوكيل «أوجنت» في جدة بتاريخ 12 ذي القعدة 1335هـ يطلب منه العناية بوالده أثناء أداء فريضة الحج وقد ورد في خطابه ما نصه: وبمناسبة توجه سيدنا الوالد إلى مكة المشرفة لأجل أداء فريضة الحج أحببنا إشعاركم بذلك. فالمرجو من جنابكم أن تلقون أنظاركم العالية على المشار إليه فلربما يحتاج إلى ضرب تلغرافات أو إرسال مكاتيب أو غير ذلك مما يلزمه. فالأمل من عواطفكم المساعدة التامة وبذلك نكون منكم في غاية الممنونية»(6).
الأمر الذي لا أستطيع توكيده - في غياب المعلومات الموثقة - هل فعلاً قام الإمام عبد الرحمن بأداء فريضة الحج خلال هذه السنة أم لا؟ إلا أن الذي يهم من أراد ما نصت عليه رسالة الملك عبد العزيز الموضحة أعلاه هو اهتمام الملك عبد العزيز البالغ بما يرضي والده مهما كانت الصعوبات المحيطة.
يبدو أنه تشعب بنا الحديث عن علاقة الملك عبد العزيز بوالده، والظروف المختلفة المحيطة بهذه العلاقة؛ وسبب هذا التشعب هو قلة ما كتب عن حياة الإمام عبد الرحمن قبل المنفى، وأثناء المنفى، ومنذ فترة عودته من المنفى إلى حين وفاته -رحمه الله - وهي فترة طويلة بلغت 27 سنة.
(يتبع)