تصدرت الأحداث المتسارعة التي تعصف بالعالم العربي جلسة ضمت نخبة من المفكرين والمثقفين، وكان البدء البحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الخروج المنظم والكبير، وكان لكل واحد من الحاضرين رؤيته وتفسيره وتحليله لتلك الأحداث ومسوغاتها، وكانت كل الرؤى والتحليلات صحيحة ومنطقية، حيث تحدد الاختلاف بينها في مدى قيمة تأثيرها باعتبارها العامل الرئيس في تسويغ حالة الاحتقان التي عمت الشارع العربي وأثرت فيه بهذه الحدة والشدة، والانفعال والغضب.
البعض رأى أن العامل الاقتصادي هو المؤثر الرئيس فيما حصل، على اعتبار أن الاقتصاد وإدارته تعدان من الأهمية بمكان في تيسير حياة الشعوب وإسعادهم، فكلما كانت عجلة الاقتصاد تدور وتدار بنزاهة وأمانة، كلما كان لذلك انعكاساته الإيجابية على الحياة المجتمعية ورخائها، لكن وهنا ينبغي الحذر والفطنة لما يأتي بعد لكن، لكن تسيير عجلة الاقتصاد في كثير من الدول جرت بعكس ما يتمنى العامة، حيث أسندت قيادة التسيير لقيادات ذات مصالح خاصة، فانحرف التسيير، وغلبت المصالح الذاتية، فطغى الاستئثار والاستحواذ، وغاب عن الاهتمام مصالح العامة، تراكمت الإحباطات، وضاقت السبل على المساكين، اللاهثين وراء تأمين المسكن مهما كان مستواه، والمعاش مهما كان شظفه، في هذه الظروف المنحرفة، نبتت بذور الاحتقان وترعرعت، ومع توالي الأيام بلغ الاحتقان مداه، انفجرت بالونات الاحتقان، وتمخضت عن ثورات عارمة يستحيل ضبطها والتحكم فيها مهما كان جبروت القوة المادية وسطوتها.
البعض الآخر رأى أن العامل السياسي هو آفة الآفات، هو العامل الرئيس فيما حصل، بل هو أس الاحتقان وأساسه، فالاستئثار بكل شيء، وصم الآذان عن مطالب المشاركة، ونداءات الالتفات إلى مواطن الفساد، وفي الوقت نفسه إغفال آليات المحاسبة والمجازاة، مع بقاء الإدارة تراوح مكانها حينًا من الدهر، طال أمد المراوحة، وأقفلت قنوات التواصل، والمتابعة والمحاسبة، كل هذا وغيره عد من المسوغات التي أدت إلى تراكم الأخطاء واستفحالها، ونتج عنها احتقان وغضب أدى إلى ثوارات منفعلة لا تبقي ولا تذر.
آخرون لم يقللوا من قيمة هذين العاملين، وأشاروا إلى أنهما حالة معروفة مزمنة مترسخة في الذاكرة العربية من زمن بعيد إلى درجة أن العقل الجمعي عدها قدر محتوم، يتعذر الخروج من دوائره المعتمة ودهاليزه المعقدة، ولطالما تذمر الناس من تردي الوضع الاقتصادي ومن الاستبداد السياسي، وأبدوا انزعاجهم وعدم تقبلهم لصور الفساد والتهميش، لكن لا حياة لمن تنادي، أمام هذه الحالة من الإحباط تكيف المجتمع مكرها مع صور الانحراف الحاد عن تفهم حاجاته، ورضخ صاغرًا للأوضاع على الرغم من أنها أوضاع لا تطاق رغم مؤشراتها الخطيرة التي تنذر بالكثير من التذمر والتململ، وبعد طول استسلام ورضوخ، وبعد أن غلب اليأس، جد في الحياة المعرفية الاجتماعية عامل جديد، يبشر بفجر مضيء، سهل سبل التواصل، وقرب المسافات، تجاوز بكل يسر وسهولة الحدود، وتحدى بكل إصرار وقوة القيود، فأضحت الدنيا كلها تحت السمع والبصر، وغدت البيوت مكشوفة عارية، يرى باطنها من ظاهرها، تبين أنها بيوت مهترئة آيلة للسقوط، الكل يعرف ما بداخلها، ويعلم سلفًا أنها بيوت بنيت على شفا جرف هار، بيوت لم تقم دعائمها على الحق والعدل، ولم تستجب لنصح الناصحين رغم إلحاحها، ودعوات المخلصين المحبين الخائفين من المجهول الذي لم تعد خافية نذره ودلائله، مجهول يتربص بالقائمين الدوائر، ويتحين الفرصة ليكشر عن أنياب غضبه، وليطلق يده ولسانه الحاد ضد مظاهر الفساد والاستئثار، والكبت والإهمال، والاحتقار والاستهتار، والتلاعب والتزوير.
تفجرت بالونات الغضب والتوتر النفسي، فإذا هي براكين من اللهب تحرق بلهيب نارها كل من يقترب منها أو يتصدى لها، تجرأت العامة وشجع بعضهم الآخر، لتتسع دوائر البراكين والغضب وتعم، فغدت حالة صعبة معقدة، ورقمًا كبيرًا يستحيل تجاهله، أو القفز على أسواره التي تزداد شراسة وقوة مع توالي الأيام.
استيقظ النائمون، فركوا الجفون، فرأوا صورة غير التي يعرفونها، صورة من الحشود حاشدة هادرة، سمعوها تردد عبارات لم يألفوا سماعها، ومطالب بدت لهم في الوهلة الأولى مجرد أحلام يقظة، وأمنيات وتخيلات كتلك التي تبدو في أذهان المرضى نفسيًا، ضرب المستيقظون الأرض للمحتشدين بقصد امتصاص غضبهم، وأطلقوا لهم الوعود، لكنها كانت وعودًا متأخرة جدًا، انتهى الدرس بالرحيل، وكان رحيلاً مرًا، إنه درس بليغ، فهل فهم الدرس؟