لا يمكن تجاهل ما يحصل من عدم استقرار في الآونة الأخيرة في مناطق تشاركنا ليس فقط الرقعة الجغرافية، ولكن عوامل أخرى أكثر أهمية هي: اللغة، والدين، والتاريخ، وهي تقاطعات في غاية الأهمية القومية، استوجب علينا الفهم الدقيق لما جرى ويجري.
ومن القواسم المشتركة لزعامات هذه الأنظمة جمودها في نصف القرن الفائت بشكل جعل التغيير السريع مفاجئاً بكل المقاييس للجميع. ولمن لا يعتقد في مقولة أن التاريخ يعيد نفسه تعد هذه الأحداث المتلاحقة ظاهرة اجتماعية سياسية جديدة تستحق التدبر والدراسة.
فهي ليست ثورات بالمعنى المعتاد لمفهوم الثورات التي يصاحبها عادة عنف شديد وعنف مضاد مستمر من قبل الثائرين ومن قبل حكومات الوضع الراهن. وهي لم تستبدل النظم بنظم أخرى واقتصرت مطالبها فقط على تغيير النظام. والثورات عادة تطالب بتغيير اجتماعي وسياسي جذري لما هو سائد ومألوف من الأنماط السياسية الاجتماعية، واستبداله بوضع جديد مبني على إيديولوجيات جديدة. ولكن الاحتجاجات الواسعة التي شهدناها في تونس ثم مصر وليبيا لم تكن مؤطرة بإيديولوجيات معينة، ولم تكن تستهدف إيديولوجيات بعينها. وعندما نتكلم هنا عن الإيديولوجيا فنحن لا ننظر لها بمعناها الواسع الذي يقصد به بعضهم الأفكار المشتركة أو النظرة المتقاسمة للعالم، ولكن نقصد المعنى السياسي للإيديولوجيا السياسية التي تستند إلى أفكار وبرامج سياسية معينة يعترض بها من يؤمنون بها على وضع قائم ويطالبون بوضع آخر بديل واضح ومحدد. ومن يقولون بموت الإيديولوجيا يخلطون عادة بين المفهومين.
لكن، وفي الوقت ذاته، فإن ما حصل في هذه البلدان أبعد وأبلغ من الاحتجاجات الاجتماعية المعتادة لأن المشاركين فيها هم من فئات المجتمع المختلفة سواء من حيث الوضع الطبقي، أو المستوى التعليمي، أو التوجه السياسي. فهي، وهذا الأمر الغريب جداً، جمعت بين الشيوعي والإسلامي، وبين الليبرالي والمحافظ، وبين ابن الطبقة الوسطى وابن الطبقة الفقيرة، وبين محدود التعليم والمتعلم.
كما أن اتجاه حركة هذه الموجات الاحتجاجية أخذ وضعا معاكسا لما هو معهود تاريخياً في الثورات بحيث تكون من الأعلى إلى الأسفل، ويقودها مفكرون موجهون، أو زعماء إيديولوجيون، أو قادة سياسيون يدعون عادة حق تثقيف الجماهير وقيادتها، كما حصل في جميع الثورات التاريخية التي تأخذ طابع التنظيم السري المنضبط قبل أن تظهر على السطح. فما حصل هو موجات احتجاجات جماهيرية، بدأت عفوية من الأسفل والتحقت بها طبقات المثقفين والسياسيين والحقوقيين فيما بعد بشكل جعل بعضهم يطلق عليهم صفة الانتهازية. فما الذي حصل إذاً؟ في الواقع لا أحد يعرف بالتحديد ما جرى ويجري لأن المعالم الحقيقية لهذه التطورات لم تظهر بعد. لكن الواضح جداً، مع الاحترام لرأي الكثير من المحتفلين بهذه الأحداث ليست ثورات بالمعنى المفهوم للكلمة. وهي أيضاً في حجمها تتجاوز الظواهر الاجتماعية المتعارف عليها. والواضح أن المحرك الرئيس لمن أشعلوها في البدء هو اليأس، وفقدان الأمل بأي إمكانية لتغيير أوضاعهم. أي أنها بدأت من بعض فئات الشباب الذين فقدوا الأمل في كل شيء، بما في ذلك الأمل في الهجرة والعمل في الخارج لأن حكوماتهم دخلت في اتفاقيات تحصل منها على معونات لتشغيلهم في بلادهم منعاً لهجرتهم، مقابل مشاركة بلدانهم فيما يسمى بمحاربة الهجرة من الجنوب للشمال. الحكومات استلمت المعونات، وقامت بواجبها على أكمل وجه في منع الهجرة، ولكنها فشلت في العنصر الأهم وهو توظيف الشباب الذي خرج فيما بعد محتجاً عليها في الشوارع.
لكن المفاجأة الأكبر هي تكشف اهتراء أجهزة الأمن في هذه الحكومات نتيجة لوضعها المتردي هي الأخرى، ولأن هؤلاء الشباب العاطل هم من أبنائها، فلم تكن أجهزة الأمن متحمسة أو مخلصة في الحفاظ على الأمن لأنها جزء من هذا النسيج الاجتماعي الفاقد الأمل. وعليه فكرة الثلج الصغيرة كبرت، وخرجت الجماهير المنتشية تملأ الشوارع بينما كانت الحكومات في موقع المندهش لهذ التغير المفاجئ بعد طول الركود والاستقرار. الاستقرار الذي بدأ لها وكأنه فطرة مجتمعاتها وليس نتيجة لعوامل أخرى، كالعوامل الاقتصادية مثلاً، فكان الرهان الخاطئ على قدرة تحمل الشعوب. ومن الدلائل الواضحة لعفوية هذه الاحتجاجات هي تسليم هذه المجتمعات زمام الأمور للسلطات العسكرية التي عرفت على مر التاريخ بأنها أكبر مناوئ للتغييرات الاجتماعية، ومن المضحك حقاً أن القاسم المشترك للقيادة التي تنحت هو كونها ولدت من رحم مؤسسات عسكرية.
إن النشوة المؤقتة، و الفرحة العارمة قد أنست هذه الجماهير النظر بعمق لواقعها، فالاختلافات الحقيقية لمفاصل مجتمعاتنا العربية لا تزال قائمة تحت السطح وتنتظر أقرب فرصة للطفو فوقه. والديمقراطية إن سنحت لن تقضي على هذه الخلافات، بل على العكس من ذلك، هي من يبرزها ويغذيها. وكتابة دستور أو لائحة انتخابية مثالية ليست هي الأخرى ضمانة على عدم تسلم سلطة قمعية أو طغمة فاسدة مهمة التلاعب بها مستقبلاً. والقانونيون هم أول من يعرف استحالة صياغة لوائح انتخابية أو غيرها بشكل يضمن عدم التلاعب بها، أو بتطبيقاتها إذا ما بيّتت سلط نافذة في المجتمع الأمر لذلك.
ما حصل عند جيراننا العرب هو تمرد جماهيري عفوي ضد سياسات الأمر الواقع التي بقيت دونما تغيير أو تعديل لعشرات السنين، وتجاهلت تغير العالم من حولها. ومن المعروف أن أكثر علماء السياسة براقماتية أو فلنقل انتهازية، ممن نظروا لتجنب الثورات والاحتجاجات، مثل نيوكولو ميكافيالي أو مترنيخ اتفقوا على أمر واحد فقط وهو ضرورة التغيير بين فينة وأخرى، ليس فقط لأن الناس تمل الركود و سياسات الأمر الواقع، ولكن أيضاً لأن التغيير هو سنة الكون، والاستقرار لا يعني الركود بل الاستقرار مع مواكبة المتغيرات.
فالعالم برمته تغير في الآونة الأخيرة بوتيرة أسرع من ذي قبل، ورياح العولمة لم تبق ولم تذر، و بعض العرب ما زال ينظر للتاريخ وكأنه يستطيع السيطرة عليه أو على الأقل الإبطاء بوتيرة تغيره. وهم لم يفطنوا لتغير وسائل الاتصال والعولمة، بل إن كثيرا من الأنظمة مستمرة في محاولة حجبها والسيطرة عليها بدلاً من مواكبتها. في مصر مثلاً يتطلب شراء جهاز فاكس إذنا حكوميا، وفي تونس يصعب على التونسي السكن في فندق يؤمه سياح أجانب. أمر مشابه حصل في أوربا الشرقية، وهي أنظمة أقوى عسكرياً، وعلمياًُ، وإيدولوجياً من بعض الأنظمة العربية، فهم استوعبوا الدروس بعد فوات الأوان، ولكن كثير من الأنظمة العربية لم تستوعب ذلك.
وعندما أفاقت هذه لأنظمة على تغير العالم من حولها، وجاءت الاستفاقة من صيحات جموع المحتجين، حاولت هذه الأنظمة من خلال التنازلات السريعة المتتالية اللحاق بقطاركان قد فاتها. ونظر المحتجون لهذه التنازلات على أنها عوامل ضعف وتفكك في هذه الأنظمة، فزاد المحتجون من سقف مطالبهم مرة بعد أخرى لأنهم يريدون أن يكونوا أسرع من الحكومات في اللحاق بالقطار. وهذا ما يفسر أن كثيرا من العناصر الانتهازية، ممن لديها عمر وذهنية الأنظمة ذاتها، بل إن بعضها كان أكثر تحفظاً منها ركضت لتشارك الجماهير في مطالبها نحو تغيير لا يعرف بعد مداه أو اتجاهه.
فقراءة الزمن، أو فلنقل التاريخ الذي خلق تجاوزه لهم ما هم فيه من اضطراب، هو الكفيل الوحيد بالإجابة عما ستئول إليه الأمور على المديين القريب والبعيد. ولكن الدروس التي يجب استيعابها تبقى هي الأهم. وأولها أن نعي أننا لا نستطيع الاستمرار في التساهل بحقوق الأجيال الشابة، خصوصا عندما نعرف أن نسبهم هي الأعلى في مجتمعاتنا. وأن التطور لايعني اقتناء التكنولوجيا فقط ولكن أيضاً القبول ببعض ما تأتي به هذه التكنولوجيا من سلوكيات وأن نحاول أن نؤثر فيها ونسايرها لا أن نقمعها. وأخيراً يبقى العامل المؤثر الأهم وهو الحرص الدائم على عدم إخلال عمليات التطور والتنمية بالعدالة الاجتماعية.