يتساءل البعض: لماذا نزل القرآن عربيا ولم ينزل بلغة ثانية؟ هل كان العرب أكثر عدداً من الحضارات الأخرى؟ أم أن اللغة العربية لم تأخذ حظها من الكتب السماوية السابقة؟ قد تتعدد التساؤلات حول عروبة القرآن؟
منذ فجر التاريخ، يتعاقب على الأرض عدة حضارات بعضها بلغنا خبرها، وبعضها اندثر وتلاشى مع الزمن والحروب والآفات، ولم يدون لها أي مكتوب، وخير دليل على ذلك بلاد حضرموت التي قال عنها بعض المفسرين إن سبب التسمية: حضر - موت. تعني: حضارة -- ماتت، ولم تبلغنا تفاصيل حياتها ولا سبب موتها!!
قبل الميلاد بحوالي ثلاثين قرنا، عاشت الحضارة البابلية في بلاد الرافدين حياة زاخرة بالفكر والعلوم والإبداع، واستمرت ردحاً من الزمن فاحتضرت وذهب ريحها ولم يتبق منها إلا نحوت صخرية وآثار شاهدة على مرورها حيث عاشت ثم بزغت شمس حضارة المصريين القدامى فاشتهروا بالطب وأبدعوا فيه كما أبدعوا في الرياضيات وبعض العلوم الأخرى، وقاموا بتوسيع دائرة المعرفة التي ورثوها عن البابليين حتى جاء دور اليونانيين الذين اهتموا بالفلسفة وطقوسها، ووضعوا أسس التفكير الفلسفي الذي ما زالت الجامعات والمنتديات الفكرية في العالم تجتر بذراتها وتنهل من سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلى يومنا هذا.
وبعد حوالي ألف سنة من الميلاد ظهر العرب في مجتمع متماسك تحكمه القبيلة التي تربى أبناؤها على فضائل قيمة كالشجاعة والإقدام والكرم وروح المواطنة الحقيقية، بعيداً عن أي حكم جائر - كالحكم القيصري أو الفرعوني - ذي الطبيعة المستبدة لكونه أعلى يداً وأرجح كفة، بحيث لا يسمح للمفكر بالتفكير ولا للمبدع بالإبداع. ناهيك عن صبر العرب وتحملها الحر بالنهار والبرد القارس بالليل.. وحتى عقيدتهم لم تكن مبنية على أساس قوي، إذ كانوا يعبدون آلهة ساذجة يصنعونها بأنفسهم من التراب والحجر، وبلغت السذاجة بالبعض أقصاها فصنعها من التمر وعبدها وتضرع إليها ثم هم بأكلها بعدما ارتأى ذلك.. فكان المجتمع في الجزيرة العربية أرضاً خصبة لنزول الرسالة المحمدية وانتشارها ونجاحها.
وبما أن العرب كانوا يهتمون باللغة وعلم الكلام والبلاغة والفصاحة والشعر حتى ظهر فيهم شعراء اتسموا بالنجابة وألفوا المعلقات وأمهات القصائد في المدح والذم والهجاء والفخر.. وقد سعى في ذلك كتابات عديدة على يد أسماء ما زلنا نترنم بإنتاجاتها حتى يومنا هذا كامرئ القيس ووصفه، وعمرو بن كلثوم وفخره، وعنترة بن شداد وشجاعته.
فأنزل الله القرآن بلغة عربية وما فيها من قوة الحجة وبلاغة التعبير بأسلوب رنان موزون مموسق تعدى كل اللغويين والشعراء، فكان لغرضين أساسيين: أولهما هو طرق باب وجدان العرب لكي يؤمنوا ويدخلوا في الدين كافة، وثانيهما هو حماية اللغة العربية التي لولا القرآن لمزقتها اللهجات المتعددة التي انتشرت في البلاد العربية، وقد تتعدد الأسباب.