من لا يدرك التغيرات التي فرضتها التقنية الجديدة، وبالذات الإنترنت، والجوال المصور، والفضائيات، على التواصل الإعلامي بين الناس فهو لا يعيش في هذا العصر. كثيرون أولئك الذين يعيشون في عصرنا بأجسادهم لكن أذهانهم ومعاييرهم ما زالت تعيش في الماضي؛ فتلك الأنظمة التي أغلقت الإنترنت، وأوقفت الهاتف الجوال، وشوشت على القنوات الفضائية، في محاولة للسيطرة على معارضيها، وقمعهم، وتكميم أفواههم، وتشتيت صفوفهم، هم يحاولون أن يعيدوا الساعة إلى الوراء، إلى زمن كانت وسائل الإعلام هي فقط ما تسيطر عليها الأنظمة؛ الآن دخل على الخط وبقوة الإنترنت، فأصبح الفيس بوك، واليوتيوب، ومنتديات الحوار، خارجاً عن سيطرة الأنظمة، ومتمرداً على مؤسساتها الرقابية. صحيح أنها تستطيع أن تلغيه، أو تحجبه، كما فعل النظامين التونسي والمصري وكذلك الليبي الآن في محاولة لتجفيف منابع الثورة، وتطويقها ومحاصرتها، غير أن كلفة مثل هذه التصرفات عالمياً عالية؛ بل هو دليل على تهالك هذه الأنظمة، ومؤشر على أنها آيلة إلى السقوط عندما ترتعد فرائصها من وسائل (الإعلام الموازي)، فتوقفه تماماً، كما فعل النظام المصري، وكذلك فعل النظام التونسي، ويفعل الآن نظام العقيد الذي تهتز أركانه وبقوة هذه الأيام.
قضية البوعزيزي الذي أشعلت الثورة، وأسقطت حتى الآن نظامين عربيين كانا (متكلسين)، والثالث في الطريق، أشعلها أول ما أشعلها (الصحفي المواطن) من خلال الإنترنت؛ وتحول الفيس بوك واليوتيوب إلى مُشعل للثورة ونافخ في نيرانها، ثم أصبح (مصدر) الأخبار؛ فمنه تستقي وسائل الإعلام التقليدية أخبارها؛ فلولا الصحفي المواطن والإعلام الموازي لما عرف الناس عن قضية البوعزيزي، ولما وصلت قضية احتجاجه إلى أرجاء تونس، ثم إلى العالم، فتعاطف معه الناس في الداخل والخارج، ثم انتشرت قصة إحراقه لنفسه احتجاجاً على الظلم والتعسف ومصادرة الحريات انتشار النار في الهشيم، لتغير من واقع لم يكن في مقدور وسائل الإعلام التقليدية تغييره، بسبب أنها مُسيطر عليها من الأنظمة.
ومن يتابع الثورة الليبية المشتعلة الآن يجد أن الصحفي المتواجد تقريباً هناك هو (الصحفي المواطن)، والصحافة التي من خلالها يجري تسريب بعض الأخبار والصور هي صحافة الإنترنت؛ فما ينشر في وسائل الإعلام التقليدية مصدره الإنترنت، ويقوم به المواطن الصحفي، بينما كان الصحفي المحترف غائباً تماماً عن المشهد، فقد أغلقت السلطات الليبية البلد بالضبة والمفتاح، ومنعت المراسلين الأجانب، وأوقفت كذلك الإنترنت، ومع ذلك ما استطاعت أن تخفي ما يحدث فيها عن عيون العالم. ولعل ما يشهده العالم اليوم من غضب عارم على استخدام السلطات الليبية الرصاص الحي في مواجهة المحتجين، كان بسبب بعض المشاهد التي التقطها المواطنون الليبيون عبر هواتفهم الجوالة، ومن ثم سربوها إلى القنوات الفضائية؛ ولولا وسائل الإعلام الجديد لظلت هذه الأخبار مجرد (ادعاءات) تبحث عن دليل، كما كان الوضع في إحدى الدول في الشمال العربي قبل ما يقرب من الثلاثة عقود، عندما سحقت السلطات هناك انتفاضة مماثلة بالدبابات، وهدمت الساجد على رؤوس مرتاديها، وقتلت من شعبها عشرات الآلاف، ومع ذلك لم يعلم أحد، ومرت هذه الجريمة الفظيعة مرور الكرام، وانتصر الأمن الزائف على إرادة الشعوب. والسؤال: هل لو حصلت مثل هذه الانتفاضة اليوم، وفي ظل الإعلام المفتوح، سيستطيع ذلك النظام التعامل معها مثل ما تعامل في الماضي؟.. الجواب بكل تأكيد (لا).
إلى اللقاء.