Sunday  20/02/2011/2011 Issue 14024

الأحد 17 ربيع الأول 1432  العدد  14024

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

ليس دافعي لـ«الكتابة» عن هذه الرواية.. غموض عنوانها: «اسطاسية».. الذي لا يدري قارئه معه إن كان اسماً لإله من آلهة الفراعنة ك»إيزيس» و»أوزوريس»، أو ملك من ملوكهم ك «نفرتيتي» و»إخناتون».. أو اسماً ل «مكان» من قرى مصر ونجوعها و»عِزَبها»..

أو اسماً ل «منطقة» بعينها من مناطق القاهرة والإسكندرية المغمورة فيهما أو في «المنصورة» أو «بورسعيد»، ولا معرفتي الشخصية ب»كاتبها» الروائي المصري العربي الكبير الأستاذ خيري شلبي - الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2005م - والتي بدأت تعارفاً عابراً به في ختام إحدى حفلات التكريم السنوية، التي تقيمها وزارة الثقافة والإعلام لوداع ضيوفها من الكتاب والإعلاميين والمراسلين الذين قدموا لتغطية فعاليات الحج السنوية.. منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، ثم نمت ب»التوافق» والتواصل معه عبر تلك السنوات.. إلى صداقة فكرية ثقافية عميقة.. جعلت من منزله بحي المعادي الجديد - على بعده - أحد مقاصدي كلما ذهبت إلى القاهرة لليلتين أو ثلاث.. لأراه وأستمع إليه وأتحاور معه حول دنيانا العربية وما يجري فيها، كما أنني لا أكتب عنها بسبب ترشيحها ل»جائزة البوكر» العربية لعام 2010 (عام صدور الرواية).. الذي اعتذر عن قبوله، بعد أن تبين له أن منشأ «الجائزة» كان في بدئه (استثمارياً) بأكثر منه أدبياً خالصاً.. بفعل طموح مؤسسها الأستاذ صموائيل شمعون صاحب ورئيس تحرير مجلة (بانيبال)، الذي لا يُنكر له أو للسيدة حرمه دورهما في ترجمة الكثير من القصص القصيرة العربية لعدد من المبدعين العرب إلى جانب ترجمتهما لبعض فصول أفضل الروايات العربية إلى الإنجليزية.. ونشرها في مجلتهما الشهرية في العاصمة البريطانية «لندن»، وهو ما يشكران عليه في نقل جانب من الإبداع العربي إن كان قصصاً قصيرة أو فصولاً من روايات إلى بحر اللغة الإنجليزية الأوسع انتشاراً والأسهل نقلاً إلى الفرنسية والأسبانية والإيطالية.. أو غيرها، إلا أن «الرائحة الاستثمارية» أو التسويقية طغت في النهاية على مشروع الجائزة.. فأفسدت بعض قيمته إن لم يكن أكثر، الأمر الذي صرف عدداً من المبدعين عنها.. ممن علموا بجذور نشأتها، أو ممن صدمهم منطق «رواج» الرواية و»تنوع» جنسيات المرشحين لها ل»الفوز» بها، وليس قراءتها وتمحيصَها فنياً.. كشرطين أساسيين من شروط الترشيح لها.

إن دافعي للكتابة عنها.. هو قيمتها الأدبية والسياسية الرفيعة.. المتمثلة في «إنسانية» موضوعها الباذخة ثراءً وغنىً وعلى كل الأوجه، وفي «توقيت» كتابتها ونشرها.. في ظل ما يقال أو يحاك من (وقيعة) بين مسلمي مصر وأقباطها. الذين عاشوا قروناً بعد قرون في سلام ووئام منذ أن جاءهم عمرو بن العاص داعياً للإسلام وحاكماً لهم في ظل الدولة العربية الإسلامية الثانية: دولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وإلى نهايات القرن العشرين ومطالع هذا القرن.. حيث بدأت نغمة اضطهاد الأقباط أو المسيحيين، وبدأ معها النفخ السياسي الخارجي الملوث لأحداث «الفتنة» وإشعالها بين الطرفين.. ربما وصولاً لتحقيق فكرة (الفوضى الخلاقة) التي كانت تسعى إليها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كونداليزا رايس»، فقد انتصرت هذه الفلاحة القبطية «اسطاسيَّة».. التي تحمل الرواية اسمها على من اغتالوا ابنها الوحيد (محفوظ) غدراً وخسة ولؤماً، وهو الصديق والشريك لعائلة العمدة (عواد البراوي).. بدموعها وليس بمالها.. بأحزانها وليس بجاهها.. وبنواحها الذي ظلت تطلقه من فوق دارها طيلة سبعمائة وأربعين صباحاً حتى أبكت كل من في القرية وما جاورها من القرى شهوراً بعد شهور.. إلى أن انتزعت (الحق) لابنها المغدور به، والذي كادت أن تنطوي قصة اغتياله في بحر من الدسائس بفعل أكاذيب العمدة، ورشاويه واستغلاله لموقعه.. حتى يتم تسجيل الجريمة في ملفات (الكراكون) وأضابير (المديرية) ضد مجهول، لولا أن أنقذها أخيراً.. المحامي الصاعد والمسلم (حمزة حامد البراوي) عندما قبل طلبها برفع الدعوة على «أبناء عمومته» المتهمين في الحادثة.. ليتم اقتيادهم إلى «النيابة» فالمحكمة. وتسترد «اسطاسية» حقها كاملاً في دم ابنها، وفي (أرض المطحنة) التي نهبوها من عائلتها.. بدموعها ودعائها فوق سطح دارها مع كل غبشة فجر..!

لقد التهمت الرواية التهاماً.. منذ أن أحضرها لي أحد الأصدقاء مشكوراً في أعقاب عودته من معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي.. ربما بدافع من شعور بتقصير - غير مغتفر لي - نحو أعمال الأستاذ خيري الروائية التي لم أكن قد قرأت منها - على كثرتها - شيئاً.. مكتفياً بقراءاتي لبعض مجموعاته القصصية القصيرة، دون الاقتراب من أي عمل من أعماله الروائية، لتفاجئني هذه الرواية (اسطاسيَّة).. بغموض عنوانها الذي جعلني أبتلع السطور والصفحات بحثاً عن ماهيته..؟ لأقع في جمال سردها، وحلاوة وتباين شخوصها.. ومتعة لغتها الرشيقة الشفافة التي لم تخلُ من عامية مصرية حيثما تطلّب تواصل الحوار ذلك القدر من العامية، ف «الرواية».. هي رواية فلاحين ب «لهجتهم» وعاداتهم، وكل ما فيهم من دهاء ونقاء.. وخبث وصفاء.. وورع وفساد، وهي تجري بين غيطانهم وعزبهم ودورهم.. وفوق أزقة قرى متربة على أطراف تلك المدن الثانوية، وقد تجاورت وتلاحمت فوقها الأقلية القبطية مع الكثرة الإسلامية.. بل وتقابلت في شخوصها، المتماثلة في سلوكها ووطنيتها وحبها للأرض وتشبثها بها، فأمام «اسطاسيَّة»: النزيهة الصلبة التي تمقت «العَوَجْ» وتتصدى له حيثما كان.. تقف شريكتها في نهجها: «الست حليمة» التي تموت وتبلى في حب دارها.. حيث رائحة زوجها المرحوم (حامد أبو حمزة) وليس (البراوي) تبراءً من اسم عائلته، والتي ما كان يهمها بعد فقدها للشيخ حامد (ألف رحمة عليه) إلا أن يصبح ابنها حمزة حامد البراوي (محامياً أو قاضياً.. يعني انتقال اسم عائلتك من عالم العوج واللَّبَط إلى عالم محترم).. كما كانت تقول له، وأمام الشيخ حامد: التقي الورع إمام وخطيب المسجد الذي يترحم عليه كل أبناء القرية.. يقف (المقدس عازر صبحي): الرافض لاتهام (عبدالعظيم عثمان) في حادثة اغتيال (محفوظ) ابن اسطاسية رغم أنه كان كثير التعرض لإخوانه الأقباط ب «التريقة» عليهم والتنشيع بهم.. لكن (المقدس عازر صبحي)، كان يعلم أن كلامه لم يكن بأكثر من (تهجيص.. في تهجيص) و(أن قلبه أبيض.. كالبفتة)، فلم يتهمه وقد كان على حق.. كما ثبت على يد المحامي وراوي القصة وأحد أهم أبطالها (حمزة حامد البراوي)، الذي رغم حصوله على ليسانس الحقوق.. ب»امتياز» إلا أنه ظل «فلاحاً» في مظهره، لا يحسن اختيار ألوان «بدله».. وما يتماشى معها من «القمصان» وما ينسجم معها من أربطة العنق وألوانها!

عندما انتهيت من قراءة الرواية.. كنت أستعيد متأملاً صور بعض شخوصها الرئيسة والهامشية الملفتة.. كشخصية (خال) الراوي: المحامي الشهير.. والوطني الفنان والإنسان (عبدالودود القصبي)، الذي كان لسان وطنيته يردد في مواجهة الفساد والانحلال: (مصر أكبر من حاكميها بكثير جداً.. وهذا هو الضمان الأكبر على أن الأمور لن تبقى هكذا طويلاً)، وكان لسان حريته.. يعطي الحق لابنته الوحيدة (رندا) في القبول ب «ابن أخته» حمزة.. زوجاً لها أو رفضه، أو كما قال له: (إن قبلت بك.. على بركة الله، وإن لم تقبل بك.. فأنت ابن أختي الحبيبة)، شيء كذلك الذي فعله مع ابنيه اللذين ذهبا للولايات المتحدة للدراسات العليا فحصلا عليها، وعلى الجنسية الأمريكية.. فقررا البقاء فيها، ليبارك قرارهما «الحر» على أن لا ينسيا وطنهما وأرضهما: «مصر»! ف «الحرية» عنده.. لها معيار واحد!!

فشخصية (علي فرج أبو العلا) مدرس العلوم الاجتماعية الشاب.. الذي فُصل من عمله زوراً وبهتاناً ب(تهمة أني علماني، يعني شيوعي كافر لا يؤتمن على تربية النشء) وظل على حاله - هذا - ألف وخمسمائة يوم وخمس ساعات، مما اضطره للعمل سائقاً لسيارة (الفولفو) المنهوبة من قبل شقيق العمدة (عابد البراوي).. رغم معرفته بخساسته ودناءته التي وصفها للراوي.. قائلاً: (الراجل - متأخذنيش - يهودي.. يهودي! طلاق ثلاثة أن اليهودي أرحم منه).. إلا أنه قبل ب»الوظيفة» على تواضعها.. على أمل أن يتوسط له ابنه الدكتور مصطفى البراوي لإعادته ل»مهنته»، فابتزه تلميحاً.. ثم تصريحاً عندما قال له: (الخدمات موجودة والأعمال كثيرة ولكن.. لمن يدفع)، ولم يدفع.. بل أخذ حذره على مرتبه الأسبوعي من تلاعب شقيق العمدة، فكان يمتنع عن العمل مع آخر مشوار يؤديه له.. حيث يطفئ موتور (الفولفو) إذا تباطأ في السداد.. ويذهب إلى بيته بعد أن يزيح أحد (الفيوزات) الكهربائية عن مكانه.. فلا يستطيع أحد إعادة تشغيلها في ظل القحط (الميكانيكي) الذي تعاني منه القرى والأرياف، ثم لا يستجيب لدعواته بالعودة إلى عمله.. إلا بذهابه إليه شخصياً واسترضائه، وسداد كل المتأخرات التي كان شقيق العمدة ينوي التهامها.

ثم تأتي بعدهم شخصية (راندا).. نسمة الفجر الجميلة، والفتاة العصرية.. المثقفة الواعية: عاشقة الموسيقى والنحت والأدب، التي علمت ابن عمتها المحامي ماذا يرتدي في الصباح وماذا يرتدي في المساء، والتي إذا تجاوزتَ قشرتها الأوروبية الخارجية نتيجة ثقافتها الأنجلو/ فرانكفونية.. سيدهشك فتونها بريف مصر وقراها، وتفضيلها السكنى فيه.. على أجمل قصور القاهرة والإسكندرية و»فيللها»..!

إنها رواية رائعة بحق.. تضيف إلى تاريخ الأستاذ خيري شلبي الروائي.. تاريخاً، وإلى مجده.. مجداً ربما يعلو كل ما سبقه، ولا أحسب أنه سيمضي طويل وقت.. قبل أن نراها عملاً «درامياً» على شاشات الفضائيات.. أو دور العرض السينمائي.

 

«اسطاسيَّة».. أو انتصار الحزن..!
د. عبد الله سليمان مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة