يتم الخلط عند العامة عادةً بين المفاهيم أو المفردات بشكل يثير الانتباه ويعكس بجلاء عدم وضوح المعنى لديهم، الأمر الذي يقود تلك المفاهيم إلى التغييب بشكل نهائي إن تم تداولها بأحاديث المجالس وتواترها من جيل لآخر حتى تتداخل وينعدم الفارق تماماً بين مفردة وأخرى أو بين مفهوم وآخر مع مرور الزمن.
أعلم جيداً أن ما يهم الناس هو توظيف الشباب والشابات العاطلين عن العمل، جُل ما يشغل العامة هو القضاء على البطالة أو العطالة أو إيجاد مصدر رزق لمن لا يستطيعون العمل وهم مؤهلون لذلك، لكن علينا تدارك بعض الأخطاء وتصحيحها قبل أن تنتقل وتنتشر على نطاق أوسع فتشمل مسؤولي التوظيف في القطاعين العام والخاص.
كثيرون هم من يعتقدون أن السعودة هي التوطين أو أن التوطين هو السعودة وأن كلتا العمليتين تحملان مفهوماً واحداً وتؤديان لذات الغرض، وعليه فإن كثيراً من العاملين في قطاعات التوظيف يقومون بعملهم مؤمنين ومعتقدين بأن ما يقومون به يؤدي لتحقيق النتائج المرضية لعملية السعودة وأنهم بذلك يخدمون الوطن على المديين القصير والبعيد.
السعودة تختلف جذرياً عن التوطين، فالسعودة تهتم بالجانب الكمي لعدد السعوديين العاملين بمنظومة معينة بغض النظر عن المهن التي يعملون بها أو التأهيل التعليمي لهم، بينما التوطين يهتم بتوظيف الشاب السعودي في مهنة معينة بموجب تأهيل معين تتطلبه تلك المهنة لممارسها وهي بذلك يكون اهتمامها بالجانب النوعي وليس الكمي لأعداد العاملين بتلك المنظومة من السعوديين، وبالتالي يمكن أن ننادي العملية الأولى بالسعودة والثانية بالمهننة، أي تلك التي تقوم على تمكين الشاب السعودي من أداء مهنة بذاتها من خلال تدريبه وتأهيله ليقوم بممارستها وتأدية ما يطلب منه لإنجاحها.
قد يقول أحدهم إننا أمام حالة تتطلب أن نعمل من أجل تحقيقها وليس من المفيد إضاعة الوقت في تفنيد المفاهيم وتبيان الفروقات بينها، وعلينا أن نهتم قبلاً بحل مشكلة البطالة المزمنة بالمملكة قبل الوغول في مفاهيمها، بينما الحكمة تتطلب عكس ذلك، فتقديم الحلول لأي مشكلة قائمة يتطلب معرفة ماهية المشكلة وتبيانها بشكل دقيق حتى نتمكن من الوقوف على مسبباتها ووضع الخطوات اللازمة لإنهائها. ومن هنا كان لابد من تبيان الفرق بين عملية سعودة عشوائية تقوم على توظيف الشباب أو الشابات بشكل عشوائي في وظائف تتمحور حول الأمن والتعقيب والطباعة والاستقبال وكثير من وظائف الكتبة، وبين توطين يأخذ باعتباره مهننة وظيفة معينة ضمن زمن محدد لضمان سد حاجات البلاد من الأيدي الوطنية الماهرة التي تقوم بإنجاز ما تتطلبه تلك المهنة وتصبح مع مرور الوقت إحدى الوظائف التي يقبل عليها الشاب السعودي كبقية الوظائف التي ذكرت بعضها آنفاً.
المفهوم الآخر الذي ينبغي أن نعالجه هو مفهوم «التدريب المنتهي بالتوظيف» والذي بلا شك يعتبر أحد أهم الأساليب لتحقيق التوطين الذي وصفته أعلاه، فكثير من الشركات اليوم تعمل بموجب هذا المفهوم على تحقيق السعودة المفروضة عليها من قبل الدولة ممثلة بوزارة العمل وبمساندة من صندوق تنمية الموارد البشرية الذي يقوم على دعم تلك الشركات في تدريبها للسعوديين ومن ثم دعمها في توظيفهم أيضاً، لكن الملاحظ أن كثيراً من الشباب السعودي الذي يُقبل على هذا النوع من الوظائف التي تتطلب تدريباً هم في الغالب من فئة غير المؤهلين علمياً وبالتالي يصيبهم نوع من الرهاب عندما يتقدمون لتدريب ينتهي بالتوظيف خشية عدم مرورهم بالتدريب أو نجاحهم فيه، فيصيبهم التردد والتكاسل والخوف ويبعدون عنه قبل أن يبدأ أو تستمر معهم حالة الخوف أثناء تدريبهم، ما يتسبب في تسربهم، والأجدى أن تُعاد صياغة هذا المفهوم أو المسمى ليصبح «التوظيف البادئ بالتدريب» وهو المسمى الصحيح لعلاقة الشاب ورب العمل من جهة، وعلاقة الشاب والجهة التدريبية من جهة أخرى بخلاف تسجيله كمشترك في التأمينات الاجتماعية ما يعني أنه موظف، وبذلك نكون قد قضينا على ذلك الرهاب أو الخوف الذي ينتاب المتقدمين ويصبح لديهم قناعة بأن ما سيقدمون عليه هو برنامج توظيفي يقوم رب العمل من خلاله بابتعاث الطالب داخلياً لأحد المعاهد للتدريب، فتطمئن قلوبهم وتستقر حالاتهم النفسية الأمر الذي يسهم بلا شك في إنجاح البرنامج سواءً الشق التدريبي فيه أو التوظيفي بخلاف أن تعديل ذلك المفهوم سيطال القائمين على التوظيف بالقطاع الخاص ويدركون أن من يتم إيفاده للتدريب أصبح موظفاً لديهم وليس متدرباً وهناك فرق شاسع بينهما.
توطين الوظائف ليس مطلباً طارئاً فرضته ظروف اقتصادية أو أمنية، بل هو متطلب اجتماعي يفترض أن يحمل الجميع على عاتقه مسؤولية تحقيقه عبر تأهيل وتدريب الشباب واعتبار ذلك عنصراً رئيساً وأولوية أولى على رأس أولويات أقسام الموارد البشرية في شركات ومؤسسات القطاعين العام والخاص، لا يفترض النظر في عملية توطين الوظائف ضمن إطار عاطفي وطني بل يجب السعي نحو معالجة الأخطاء القائمة في سوق العمل وتصحيح الخلل الموجود في قوى العمل بالمملكة، فوجود طفرة في المؤهلين علمياً بمؤهلات لا تتطلبها السوق يوازي تماماً وجود طفرة في غير المؤهلين من حملة الثانوية العامة وما دون، وعليه فإنه لن تنجح عملية توطين وظائف إطلاقاً مالم تأخذ بحسبانها دراسة أسباب ذلك الخلل وتلك الأخطاء من ناحية، ووجوب استمرار تدفق العمالة المؤهلة فقط للمملكة من أجل استمرار مزج الخبرات المؤهلة بقرينتها الوطنية والاستفادة منهم ومن خبراتهم وهو بلا شك يعد مطلباً حضارياً تنموياً لا يمكن الاستغناء عنه.
لابد أن نعي أن الوظائف الحالية والمستقبلية مرتبطة بشكل وثيق بالتخصصات المهنية التي تتطلبها سوق العمل، ووعينا ذلك يتطلب أن يندرج في أي خطة توطين تعمل وزارة العمل على تأسيسها وإنجازها، علينا أن نعي أيضاً أن استيعاب هؤلاء العاطلين عن العمل لن يتم بمعزل عن شركات ومؤسسات القطاع الخاص وبالتالي فإن إشراكهم بإعداد خطط التوطين يُعتبر أمراً غاية في الأهمية بدلاً من فرضها عليهم، فشتان بين أن يُطلب من شركة أو مؤسسة أن تحقق نسبة سعودة معينة أو أن تحقق نسبة توطين معينة لمهنة محددة.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.