من التعبيرات الموحية باللغةِ الإنجليزية: «لا طريق إلا الصعود» There is no way but to go up، ويعني بلوغَ نهاية القاع فلا قاعَ بعده، أي حينما لا يبقى مجال لضعفٍ أو تخلفٍ أو فشلٍ أكثر؛ فليس بعد «التحتِ تحت».
وبمقدار قسوة العبارة فإن فيها نَفَسًا تفاؤليًا بإمكان الانعتاق من التردي بحراكٍ يتجاوزُ الجمود بمرونة، والسقوط بنهوض، واليأسَ بانبعاث، وبقية الأدواء ببعض دواء؛ فلا انحناءَ لهزيمة ولا رضوخَ لاستسلام.
تتالت انكساراتُ الزمن العربي حتى لم يبقَ مفصلٌ لم يُصَبْ، ولا فصلٌ من النُوب لم يُكتب، وبدت فواصلُ جديدة تَخًط مساراتٍ نائيةً عن شعارات الكلام والملام؛ ليبقى الأهم في الموضوع المكاشفةَ الواعية بالأسباب والموصلةَ إلى النتائج، وهو ما حرك أحجار «الدومينو» بتسارعٍ يختصر ساعات الليل الطويل.
تبدل الشارع العربي بشكل جذري؛ فقد غابت اللغةُ الخطابية الباذخة التي أوهمت جيلنا ومن سبقنا ولحقنا بالنصر ضد الصهيونية والإمبريالية؛ وإذ لم ير جيلُ أبنائِنا أننا قد حررنا القدس أو تحررنا من التبعية فقد اقتنعوا أن الحياة أكبرُ من أن تكون ملهاة سياسيةً للديماغوجيين والحزبيين.
توارى الكبار خلف شباب لم يضيعوا أوقاتهم بصياغاتٍ ومقدمات وقراءات؛ ما يعني أن مكوناتٍ محدثةً تصنعُ الرأي العام بحيث لم تعد الأمداءُ المستقبلية المنظورة والبعيدةُ قابلةً للتنبؤ والقياسات؛ ما يشير إلى أهمية المُدخلات الجديدة في الحساب والمحاسبة.
يبقى الحكم على ما تم أو يتم رهنًا بنتائجه، وهو ما يعطي صانعي القرارات العربية مسافةً للرؤية تشفُ عما هو مطلوب، أو بالأدق عما هم مطالبون به، مثلما يبرزُ التفسير الشامل للتأريخ المعبر عن تركيبة لا تخضع للتفاوت الطبقي والإنتاجية السُخْروية ودُوْلة المال بين الأغنياء بل لخليط من هذه وعوامل أخرى لا يستجيب معظمها للتوقع والتحليل.
لا يمكن إخضاعُ البشر لمعادلات رياضيةٍ، ولا لراياتٍ طوبائية؛ فنحن على الأرض لا في السماء، وحتمية الصراع الطبقي واختلاف المستويات المعيشية لا يبرر الزلازل التي شقت سكون الأعصر الوسيطة لتبشر بفجرٍ عروبي لم يكن غيرَ مزيدٍ من الدُلجة والغلس.
كذا صعد المد الثوري المتجهُ للتغيير بأي ثمن؛ ما أوقع الأمةَ ضحيةً لعواطف جامحة أو منطقٍ تآمري بعمالةٍ غافلةٍ أو مأجورة؛ فكانت الثورةُ العربية الكبرى وثورات العسكر والتثوير المذهبي معالمَ انتكاسيةً في المسار العربي المعاصر.
اليوم بات الشارع يعطي إشارات دلاليةُ لا تحتمل التأويل والتأجيل؛ ما أسقط الأقنعةَ وكشف المزايدين وصار المثقف كما السياسي في مواجهةٍ مع ذاته لجولةٍ حاسمة وربما أخيرة كي يتدارك قولَه وفعلَه وصَرفَه وعدله وبيانه وبنانه وليستطيع التكيف مع منطق حاسمٍ حازمٍ مختلف.
الشباب - اليوم - مختلفون ومتحررون من القيود والسدود، وليس لدى أكثرهم ما يخسرونه، مثلما تعينُهم تربيتهم المنطلقة في تقدير الأحجام الحقيقية للناس والأشياء، وهو ما افتقدته أجيال أَلفت البلاغة والمبالغة والخوف والحيف، وبات خطابهم - كما أعلنه الشارعان التونسي والمصري - يسيرًا لا يتجاوز مطالب الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص؛ وما الظن أنه قد شط.
المدار قرارٌ واستقرار.