الحديث عن الحب يتطلب قدراً عالياً من التركيز لكي لا يتشعب الحديث، فالحب قبل أن يكون حب المرأة والرجل بصورته الكلاسيكية، أو حب الوالد للولد، أو الأخوات والصديقات، هو قبل كل هذا حب لله. فالله هو أصل كل محبة. ومن محبة الله يوجد قلب العاشق. ما يغفل عنه الناس أثناء حديثهم الذي لا ينتهي عن الحب، الغفلة عن الشروط والصفات والحدود للقلب الذي يستطيع أن يحتوي الحب وأن يمتلئ به. إنه ذلك القلب المليء بمحبة الناس والشفقة عليهم ورحمتهم. القلب العاشق ليس ذلك المتملك الذي لا يرى في حبيبه إلا مرآة تعكس مراداته، وإنما هو القلب النقي الطاهر الذي يود أن يكون الوجع كله من نصيبه دون أن يمس من يحبهم مرض أو وجع أو وخزة إبرة. هذه النوعية من القلوب هي التي تملك القدرة على المحبة الحقيقية، المحبة التي لم تبنَ على أطماع رخيصة ولا متعة عابرة. وإنما الحب عندها نوع من التعلق الروحاني الملائكي الذي يتجاوز عالم الحواس والمادة والمشاهدة والتجربة، هو شيء يشبه التصوف، حيث العطاء بلا انتظار مكافئة.
انتهيت مؤخراً من قراءتي للمرة الثانية، رائعة الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) والتي تحكي قصة فلورنتينو أريثا، الولد الفقير الذي يعمل في وكالة البريد ويركض ليطرق أبواب الناس ليبلغهم بوصول الرسائل، والذي يلتقي بالفتاة الأرستقراطية فيرمينا داثا، ابنة الأغنياء التي التقاها فانتهت براءته على حد تعبير الرواية. وكيف أن ساعي البريد دخل قصة حب مضطربة فاشلة مع فرمينيا انتهت بأن هجرته وتركته يبكي طوال حياته عليها. لقد بقي فلورنتينو يحبها لمدة إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وأربعة أيام، لكنه لم يتوقف عن التفكير بفيرمينا لحظة واحدة، بل بقي طوال هذا العمر الطويل حبيس زنزانته المفتوحة التي جلس فيها باختياره لأنه لم يكن يستطيع أن يخرج منها ولأنه لم يكن يمر يوم إلا ويحدث فيه حدث صغير يعيد إليه ذكراها ويفجر جراحه ويتركه ينزف.
ثم يلتقيان بعد أكثر من نصف قرن عندما يموت زوجها، فتجده رجلاً عجوزاً أصلع بشعر أبيض وبحياة مر فيها على عدة زيجات فاشلة وتجارب عاطفية لا يكاد يحصيها، فيفرح عندما يعلم بوفاة زوجها، فيهرول إليها متشوفاً إلى الحياة والمستقبل والفرح والزواج. لو كان غيره لتساءل: ماذا يمكن أن يقدمه المستقبل لشيخ مثله بعاهات كثيرة وأمراض وقروح في المعدة والقلب على حد سواء؟ وماذا يمكن أن يقدم لامرأة عجوز لا تتحرق شوقاً إلا إلى الموت؟ وماذا كان يمكن أن تقدمه هي له بعد أن هزل الجسد وذاب الشباب؟ أما فلورنتينو فلم يدخل في هذه التفاصيل كلها ولم يتساءل إطلاقاً، بل رأى أن مصيبة حبيبة قلبه قد زادتها مجدا وأن الغضب الذي يملأ روحها الآن قد زادها جمالا وأعاد لذاكرته طبعها الجموح الذي كانت عليه عندما كانت في العشرين.
وتنتهي الحكاية بالاثنين في سفينة ينظر قبطانها إلى المرأة فيرى في رموشها الوميض الأول الذي يستحق أن يُعشق، وينظر إلى بطلنا العاشق فيرى قوته المنيعة وحبه الجسور، يفيق مشدوها من هذه القدرة على الحياة التي هزمت الموت وعلى هذا الحب الحقيقي الذي لا يمكن أن يقتله شيء.
www.salmogren.net