اعترف أنه عندما تكتب عن البطالة، أو عن غلاء المعيشة أو عن الهدر المالي وغيرها من هذه الموضوعات التي تمس وتؤثر على حياة الناس، وتنتقد مؤسسات المجتمع المدني التي قد ترى عيبًا في أدائها أو طريقة إدارتها، أن الأصداء لما تكتبه ستكون بيِّنه وواضحة، وتفاعل الناس أو غالبيتهم بلا شك سيكون حاضرًا ومتابعًا لما تكتب.. لأن غالبية الناس وللأسف يحصرون همومهم في هذه الأمور المادية.
والكتابة في هذه الموضوعات معين لا ينضب فطالما هناك أشخاص ومؤسسات تعمل سيكون هناك تقصير وخطأ.. هذا أمر بديهي لا يحتاج للوقوف عنده طويلاً، الذي أريد أن أقف عنده سؤال يحيرني كثيرًا وافتراض لا أنفك أتأمل فيه وفي توابعه، فأنا اسمع مثلاً طبيبًا يبادر باكرًا في الصباح إلى عيادته وهو يدعو أصبحنا وأصبح الملك لله، ويتمنى على الله أن يعافيه ويعافي المسلمين معه، ويطلب من ربه في الوقت نفسه أن يفتح عليه باب رزقه، فأقف حيران، فالطبيب وهو يدعو بنية صادقة كما يبدو لنا بشفاء المرضى، يدعو ربه كل صباح يفتح فيه باب عيادته أن يفتح عليه باب رزقه، ولا أدري كيف نجمع بين دعوتين متناقضتين، وندعي في كل دعوة صدق نياتنا وسلامة مقاصدنا..أحيانًا لا يمكن أن تفهم كيف تسير الأمور، لكنني أعود للمقولة المعروفة مصائب قوم عند قوم فوائد، وأؤكد أننا كمنظومة في أي مكان لا نقوم ولا نكون إلا على بقايا أو سقطة وتعاسة غيرنا، فالغني لا يغنى إلا بحاجة غيره وصاحب الورشة لا يكسب إلا بمصيبة غيره، والمحامي لا يعرف إلا بنكبات غيره، وهكذا لا يكون شيء إلا على حساب شيء آخر لو نظرنا للمسألة بتجرد محض، وينطبق هذا على زمرة من نسميهم بالكتَّاب الذين يحملون هموم المواطن ويبرزون مشكلاته، فصلاح الأمور يتعارض مع موجبات معرفة الناس بهم وبالمكانة التي يضعهم الناس فيها، فلولا هذه الأخطاء التي يحدثها غيرهم ممن يجتهد ويعمل في مجاله، لما عرفناهم أصلاً ولما وضعناهم في المكانة التي تفرض علينا أن نقرأ ما يكتبون ويقولون، ودعونا نستعرض في أذهاننا أسماء نعرفها، لا لأنها عملت ما عجز عنه من تنتقده، أو أنها أبدعت في تطوير وتحسين أمور حياتنا، بل لأننا لم نكن لنعرفها لولا ما نقرؤه أو نسمعه من انتقاداتها وتصيدها لما يحدث من أخطاء في هذا الجهاز أو ذاك، فهي بعبارة أوضح تعيش وتظهر وتكبر مكانتها على قدر استمرار وكبر ما يحدثه غيرها ممن يعمل في مجاله من أخطاء، والمنطق يفرض أن نفترض أنه بزوال هذه الأخطاء لا يعود هناك مبرر لظهور هؤلاء المنتقدين، الذين بنوا مكانتهم من أخطاء غيرهم دون فعل ملموس.
إن كانت النية إصلاح كل شيء كيف نجمع بين نقيضين، بأن يتمنى الطبيب أن يشفي الله جميع المرضى، وأن يتمنى صاحب الورشة سلامة ممتلكات الناس، وأن يتمنى الكاتب صلاح كل الأمور، وفي الوقت نفسه يرتفع دعاؤهم أن يفتح الله لهم أبواب الرزق والمكانة.. لا أدري.. والله المستعان.