في خضم الأحداث المصيرية يلجأ الوجل إلى مُدَّخل أو مغارات ليدس مشاعره وانفعالاته في ترابها بعيداً عن تحولات متلاحقة لا يدري ماذا وراءها وإن كانت بوادرها تبشر بخير، إلا أن الواقع العربي كالأرض الموحلة تمسك بمن يمر بها وكل تجاربها الوحدوية والقومية
والاشتراكية باءت بالفشل وكرّست الإحباط.
في هذه الأجواء عنَّ لي أن أولي وجهي شطر الكويت مع من بقي عندي من الأبناء والأحفاد، لنشهد طرفاً من أعيادهم الوطنية، وأمشاجاً من منجزاتهم المدنية، ونمتع أنفسنا بتغيير نمط الحياة اليومية، فالإنسان مجبول على حب التغيير، إذ يبرح بيته صوب الأودية والشعاب والآكام والضراب ومنابت الشجر، ليستنشق الهواء الطلق، ويمتع ناظريه بالآفاق الفسيحة، ويمكن جسمه من الحركة الدائمة التي صادرتها رتابة العمل. وقبل تلك التحولات المخيفة في حيواتنا الخاصة والعامة لم ترق لي الكتابة في أدب الرحلات، لوقوعها أو وقوع أغلبها في فضول القول، وإن كنت في فترات مضت (بطُّوطِّياً) لا يحط من سفر إلا إلى سفر عبر رحلات ذات دسامة ووسامة، غير أن أحداثها تفلتت من الذاكرة مع مرور الزمن.
وأنا ممن استهوتهم قراءة كتب الرحلات بمختلف أغراضها واهتماماتها لعلماء ومؤرخين وأدباء وساسة ومستشرقين ومبشرين.
وكان من أقربهم إلى نفسي وأجملهم أسلوباً وأنفسهم دلالة (أمين الريحاني) وهذا الصنف من الرحالة يحملون هموماً ومهمات متعددة، ويؤدون وظائف ذات مساس بمصائر الأمم، فمنهم من أنجز مهمته على وجهها، ومنهم من أنجزت عليه مغامراته والنابهون من السائحين والرحالة يقيدون أوابد المشاهدات وشوارد المواقف، حتى إذا عادوا إلى ديارهم محصوا ذلك وأخرجوه إلى الناس أدباً وتاريخاً وتجارب ومعلومات يمتع فيها المتابع ناظريه وأسفي أنني لست من هذا الصنف، ومن ثم أضعت أشياء كثيرة ما كان من حقي أن أفرط فيها وليست لدي ذاكرة حافظة وإن كنت على شيء من ملكة التداعي، ولقد يكون لبعض الرحلات قيم يستفيد منها المتابع وحديثي عما انطوت عليه الأيام الأربعة في ربوع الكويت لن يكون خالصاً لهذه الرحلة فهي رحلة لا تلوي على شيء، ولكنه حديث عن تداعياتها، لقد استدعت هذه الرحلة ذكريات صعاب، مرت عليها ستة عقود، وذكريات عذاب وأخر يابسات راوحت بين ذلك، عرفت الكويتيين قبل أن أعرف الكويت، وذلك حين كانت قوافلهم وحملات الحج منهم تمر بمدينة بريدة خفاف العياب وتبارحها بجر الحقائب، وكنت إذ ذاك طفلاً لم يبلغ الحلم، وعندما ينصبون خيامهم في أطراف المدينة ننطلق إليهم زمراً ببراءة وعفوية، نتزود منهم بالحلوى وبقايا الأطعمة التي لم تكن حاضرة في بلادنا، ندخل على النساء في خدورهن ونعجب من براقعهن التي لم تألفها نسوة نجد، فالبعض منهن يقدمن لنا الحلوى، والبعض الآخر يقدمن ألوان الطعام وغريب المكسرات وأشياء لم نكن نعرفها من قبل، كان ذلك في السبعينات من القرن الهجري الماضي، وكنا نخرج من خيمة إلى أخرى فنعرِّض أنفسنا لمساءلة الأهل، وقد تمتد المساءلة إلى الضرب غير المبرح، وبخاصة حين يشمون بعض الروائح الغريبة في أيدينا أو على ملابسنا، على الرغم من غسلنا لها سبع مرات إحداهن بالتراب ليذهب ما علق بها، وما هو بذاهب.
تلك الذكريات الطفولية أحببنا فيها أنواعاً من المأكولات من محشيات ومعجنات ومقليات ومطبقات، حتى أنني وبطريقة عفوية أبحث عنها في الأسواق الشعبية ك(سوق المباركية) و(فريج صويلح) وآكل منها بنهم طفولي وأعطي أبنائي وأحفادي، غير أني لا أجد اللذة التي كنت أجدها من قبل ولا النهم الذي كان ينتابنا إذ ذاك، ثم إن المأكولات الشعبية تغيرت بعدما استنسخها الوافدون على غير هدى، وواجب الهيئات السياحية في الخليج العربي وفي المملكة على وجه الخصوص العمل على إحياء هذه الأكلات والصناعات وسائد الحرف اليدوية، ونقلها من الأجداد إلى الأحفاد بأجور مغرية وبإشراف مؤسسي، حتى تكون حاضرة في الأسواق الشعبية بشكلها وطعمها الحقيقي، ولقد أحسنت طائفة من المؤسسات بمباركة ودعم من هيئة السياحة ومن المسؤولين في المنطقة بإنشاء جمعية (حرفة) بحيث استقطبت أسراً فقيرة ومكنتها من ممارسة الحرف الصغيرة وإنتاج المأكولات الشعبية، وتلك مبادرة تحتاج إلى مزيد عناية ودعم سخي من الهيئة، لتكون من المشاريع المستدامة.
لقد مني الخليج العربي بمتغيرات سريعة واجتاحته مدنية شرقية وغربية وساعد على ذلك استقراره السياسي ورخاؤه المعيشي وشيء من خططه الخمسية، غير أن طفراته أكبر من حجم تقديراته، ولهذا مُني بزحام شديد واستقدام أجنبي غير سديد، وكدنا نسمي نهضاته ومدنياته بحضارة الأبراج والخرسانة والكباري والأنفاق.
كانت أول زيارة قمت بها للكويت في حج عام 1387هـ أي قبل خمس وأربعين سنة، فلقد أردنا الصيد وأراد الله الكويت، دخلنا بدون جوازات فالأمور إذ ذاك ميسرة، والأمن مستتب، وحسن النوايا قائم، كنا نحمل سلاح الصيد وأنواع الذخائر ونطارد الأرانب والطيور حول خطوط (التابلين) وداخل الحدود، وإذا التقينا بدوريات زعمنا أننا تائهون، فما يكون منهم إلا إرشادنا. إنها أيام مليئة بالثقة والاطمئنان، أما اليوم فالأمر مختلف جداً، كل شيء مريب.
فمن حمل الناس على الخوف؟
ومن جعلهم يظنون بكل قادم ظن السوء؟
إنه الإرهاب، واللعبة السياسية القذرة، والتآمر البغيض، والحرص على تفريق الكلمة، وارتياب الأخ من أخيه والتناجي بالطائفية والعرقية والقطرية.
حفظ الله الخليج من كل سوء ورد كيد الحاقدين في نحورهم، ومكَّن قادته من إدارة شؤونه بما يكفل السعادة والرخاء والاطمئنان لأبنائه الموالين لقادتهم المتطلعين إلى مزيد من التواد والتراحم بين أعضاء الجسد الخليجي.
في زيارتي الأولى للكويت لم نكن قد سبقناها في خطط التنمية، ومن ثم كانت مثار دهشة، وكان كل شيء فيها يكاد يكون غريب الوجه واليد واللسان، أما اليوم فلم يكن شيء في أرض الله الواسعة يلفت النظر ولا يثير الفضول.
لقد سبقنا في كل شيء، وتلك من منن الله علينا، ولكيلا يستحوذ علينا الغرور فإن هناك لمسات جميلة وظواهر مريحة كنا نتمنى أن يكون لنا مثلما أوتي هؤلاء، فالخليجيون في سباق مع الزمن، ولا سيما أنهم يعيشون لحظاتهم الذهبية، استقرار ورخاء وخيرات تنشق عنها الأرض، وما لم يستو الخليجيون على سوقهم في تلك الأيام فإن الفرص لن تعود.
كانت الكويت يوم ذاك وادعة تزخر بالخيرات، وتبدو شواطئها كما خلقها الله صخور سوداء ورمال ذهبية ومياه زرقاء صافية وأمواج تتحطم على الشاطئ الجميل، ولقد عرفت يومها (عبد الله القصيمي) من خلال كتبه المبذولة هناك والممنوعة عندنا، وقرأت كتاب (العالم ليس عقلاً) ولما كانت الرقابة الفكرية على أشدها كنت كلما قرأت ورقة من الكتاب نزعتها لأخي سليمان الفهاد شفاه الله، يوم أن كان مديراً لمكتب العمل في (ميناء سعود) وإذا قرأها مزقها ورماها في البحر ولم نبرح الكويت وفي الكتاب ورقة لم تقرأ ولم تمزق، أما اليوم ففي مكتبتي حقل ل(عبد الله القصيمي) يشتمل على ما كتب وما كُتب عنه وهو جزء من حقل الملاحدة والدهريين والماديين، لا أوقد الله لهم ناراً.
وبعد تلك الزيارة الحافلة بالمفاجآت زرته مراراً وأحسست فيما بعد أن المواطنة متجذرة متجلية عند أبنائه ولا سيما بعد أحداث الخليج المريرة وجنون (صدام حسين). لقد أحس الكويتيون بمرارة الاغتصاب فكانت عودتهم إلى بلادهم وعودة الحرية إليهم كمن وجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه بعد يأس واستسلام للموت، حتى قال من شدة الفرح:
(اللهم أنت عبدي وأنا ربك) كما في الحديث. ولهذا يحس القادم إلى الكويت أنه في عيون الكويتيين وقلوبهم.
مررت بالشاطئ الجميل، وكدت أكون (رومانسياً) يسائل البحر عن عمقه وغدره واضطرابه وتكسر أمواجه، لقد تصورته مع الأرض زوجين يتبادلان الحياة والثبات، مثلما يكون الرجل والمرأة، فالزوج حياة للمرأة والمرأة ثبات للرجل، وتمنيت وأنا أجوب الشاطئ الجميل لو حُمل أمناء مدينة جدة على بساط الريح لينظروا كم هو الفرق بين الشاطئين، وتمنيت أن يعود الشاعر (حمزة شحاتة) مترنماً بقصيدته:
النهى بين شاطئيك غريق
والهوى فيك حالم ما يفيق
والتي تبلغ تسعة وخمسين بيتاً ليسأل: هل لهذه القصيدة مكان بعدما نال جدة ما نالها من البأساء والضراء.
ثم نظرت إلى المرور وكمرات المراقبة، وتمنيت لو حُمل رجال المرور على البراق لينظروا كيف يكون النظام، قبل كل كمرة تنبيه (أمامك كمرة). كان الكويتيون يريدون التثقيف وكان مرورنا يريد الكسب وشتان بين هذا وذاك.
إنها رحلة التداعيات، لقد وجدت الخليج متجانساً في كل شيء وإذ ينقصه الشيء الكثير فإنه من نقص القادرين على التمام:
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام