كان مما أشرت إليه في مقالة الأسبوع الماضي عمق سبات الرئيس التونسي، زين الدين بن علي، الذي أمضى ثلاثة وعشرين عاماً رئيساً لتونس، قبل أن توقظه هبَّة ذلك الشعب من سباته العميق، فيردد عبارته المضحكة المبكية: «فهمتكم الآن».
على أن صحوته من ذلك السبات لم تحدث إلا بعد فوات الأوان -ولات ساعة مندم-، فكان أن أجبر على الهروب مُولِّياً وجهه شطر جدة. ولم يتفوَّق عليه في طول السبات إلا الرئيس المصري حسني مبارك، الذي أمضى ثلاثين عاماً في رئاسته لمصر قائداً لعهد من أبرز صفاته الفساد الذي يكاد يكون منقطع النظير، وإفقاد مصر مكانتها العربية والإقليمية والدولية، وإخلاصه العميق صديقاً لزعماء الكيان الصهيوني. ولم يوقظه من سباته العميق إلا دَويُّ هبَّة شعبه العظيمة، التي تصدَّرها الشباب من مختلف الفئات والتوجهات الفكرية. وها هو ذا ترغمه تلك الهبَّة على التنحِّي عن الرئاسة مُرجِعاً البصر كرَّتين فينقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير.
تبدو للناظر إلى ما جرى على أرض الكنانة - وإن كان مثلي ينظر من بعد - أمورا كثيرة تستحق الوقوف أمامها والتأمل فيها. ومن هذه الأمور:
1 - أن الشعوب قد تتحمل مشقة الصبر على ظلم حكامها، وتضطر إلى السكوت عن فسادهم المستشري، فترة يكاد يسيطر اليأس على النفوس خلالها. لكن الصبر لابد أن ينفد، وزمن السكوت عن الفساد لابد أن ينتهي، فينقلب اليأس إلى ثقة بالنفس تُحطِّم كل القيود. وكنت ممن كاد اليأس يسيطر على نفوسهم؛ ابتداء من نهاية حرب 1973م، التي أثبت فيها المقاتل العربي عظمته لينهيها زعماؤه السياسيون، نهاية مذلة دشنت مسلسل التنازلات أمام الصهاينة حتى وصلت أكثر قيادات أمتنا إلى ما وصلت إليه من إدمان على تجرُّع كؤوس المهانة والذل. وفي ضوء ما رأيته في هذا الصدد؛ وبخاصة ما رآه الجميع خلال العدوان الصهيوني على غزة، وما تلا ذلك من نتائج، كتبت قصيدة عنوانها: «عام من الذل» ومما ورد فيها ملمحاً إلى وضع مصر:
يا عاماً مرَّ وكاتبه
سطَّر عن وضعي ما سَطَّر
عن شعبٍ دُجِّنَ مقهوراً
وزَعيمٍ أخرس من يُقْهرَ
عند المُحتلِّ له نَفَسٌ
أطيب من رائحةِ العنبر
وحديث سبك عبارته
أحلى في الطَّعم من السكَّر
وعلى مَحكومٍ مضطَهدٍ
أمضى في السطوة من عنتر
ومُولَّى ينكر معروفاً
ويمارس في النادي المنكر
وعصابة سوء فاسدة
في نهب المال هي الأشطر
ذلك اليأس الذي كاد يسيطر على نفسي - وربما على نفوس كثيرين من أمثالي - سرعان ما بدأت بإزالة طيوفه هبَّة الشعب التونسي العظيم إرادة وتصميماً. ثم انلطقت الهبَّة الشعبية في مصر المتدفقة حيوية وقوة عزيمة لِتمزِّق ظلام ذلك اليأس.
2 - في هبَّة الشعب المصري العظيم، التي تصدَّرها الشباب من جميع فئات ذلك الشعب، ضد الظلم والفساد برزت أمور متعددة من أوضحها:
- عظمة نبل من قاموا بتلك الهبَّة الشعبية. ومما برهن على ذلك النبل تكوينهم جماعات تدافع عن أولئك الذين كانوا مع أسرهم في منازلهم، والسعي لتأمين احتياجاتهم المعيشية والصحية، ومسارعتهم إلى حماية المتحف المصري، الذي هو في غاية الأهمية؛ وطنياً وعالمياً، من أي محاولة يمكن أن يرتكبها المجرمون ضده وضد محتوياته.
- أن الاعتصامات المليونية أعداداً كانت سلمية تجلَّى فيها الانضباط العظيم بأبهى صوره.
3 - أمام هبَّة الشعب المصري العظيم تجلَّت صورة المنتفعين بالنظام المُترهِّل فساداً بأبشع صورها. وفي مقدمة هؤلاء المنتفعين كبار رجال الأمن البوليسي وضباطه، والمثرون ثراء غير شرعي على حساب الشعب من لصوص رجال الأعمال خَوَنة الشعب. ومن وجوه الصورة البشعة، التي تجلَّت لهؤلاء وأولئك، ما شاهده العالم كله بعد أن أصبحت وسائل كشف المُغطَّى لا يحدها حدود، من سحب قوات الأمن من الشوارع فجأة لإتاحة الفرصة للصوص والبلطجية كي ينهبوا ما ينهبون، ويخرِّبوا ما يخرِّبون، ويهجموا بأساليبهم البدائية البلطجية الكريهة على المعتصمين في ميدان التحرير بالقاهرة؛ منادين بإزالة عهد الظلم والفساد. وكان للخونة من رجال الأعمال دور قذر في دفع الأموال إلى أولئك البلطجية والمجرمين ليقدموا على ارتكاب ما ارتكبوه من جرائم. بل إن مسؤولين من رجال الأمن الخونة قاموا بفتح أبواب السجون ليخرج منها من كانوا بداخلها من المجرمين، فينضموا إلى عصابات التخريب والنهب.
4 - هناك تشابه بين الهبَّتين الشعبيتين في تونس ومصر ومجريات أحداثهما، كما أن هناك اختلافاً، نوعاً ما، في مجريات هذه الأحداث. فمن وجوه التشابه أن كلتا الهبَّتين شعبية لم يقم بها حزب معين، ولا أدَّعتها جهة من الجهات وحدها. لكن من الواضح أن الشباب في مصر هم القائمون بها أكثر من غيرهم. ومن تلك الوجوه أن رأس النظام في تونس أدَّعى عند بداية الهبَّة التونسية أن القائمين بها أعداد حُرِّضوا من الخارج، ثم ما لبث أن بدأ بتغيير موقفه شيئاً فشيئاً حتى أُرغم على الهروب، وهذا ما حدث في مصر. فقد ادَّعى رأس النظام فيها أن من قاموا بالهبَّة هم فئة قليلة مُحرَّضة من أعداء الوطن. ثم ما لبث أن اعترف -تحت وطأة تصميم الثائرين الشرفاء- بأن مطالبهم عادلة، وأنه لابد من العمل على تحقيقها.
وتصميم شعب النيل أقوى ضراوة
وأمضى من السيف الصقيل وأصلب
وبعد يوم واحد فقط من آخر خطاب ضمَّنه القول بكبريائه: «إنه لن يتخلَّى عن الحكم» أرغم على التخلِّي عن هذا الحكم.
ومما يبدو مختلفاً بين مجريات الهبَّتين في تونس ومصر أن الجيش التونسي حسم الأمر بسرعة. وكان ذلك الحسم السريع مما عجَّل بهروب ابن علي، وإن كان سيبقى تحت وطأة الخوف من طائلة ملاحقة الانتربول الدولية له لمحاسبته على أفعاله، وإن أصبحت الأموال التي كدَّسها بطرق غير مشروعة مُجمَّدة في البنوك الأوروبية.
والله أعلم بعودتها إلى الدولة التونسية أو بعدم عودتها. أما الجيش المصري؛ وهو الذي اتضح للناس حرصه على إثبات مواطنته الجديرة بالتقدير بمقدار ما اتضح لهم نذالة بعض المسيطرين على أجهزة الأمن، فلم يسارع إلى حسم الأمر؛ بل راعى -فيما يبدو- أموراً قد تكتشف عاجلاً أو آجلاً. وهذا ما جعل الرئيس المصري يتشبث بكرسي الرئاسة. فكانت نتيجة هذا التشبث أن ازدادت برهنة الشعب على أنه أشدُّ تصميماً ومضاء. ولم يجد بُداً من التنحي عن الكرسي، الذي تشبَّث بالبقاء فيه.