الأحداث السياسية العربية والعالمية تتسارع تسارعا إلى حد لم يعد معه الإنسان يعرف حول ماذا يتحدث وعن أي شيء يكتب، خشية أن يحلل خبرا أصبح بائتا في عرف المتابعين، فيصير حاله مثيرا للسخرية كمثل ذلك الحيوان الذي سُمع يقهقه بعد أسبوع من ضحك بقية الطيور والحيوانات على
طرفة أطلقها ملك الغابة الأسد؛ ولكننا رغم ذلك نعتقد بأن هناك عدة أمور أساسية تتخذ صفة الثبات مهما حدث من متغيرات، تأتي في مقدمتها العقائد والأخلاقيات والمشاعر الإنسانية.
فالأحداث السياسية الأخيرة جعلت الكل يدلي بدلوه وهو أمر طبيعي يفرض ذاته في واقعنا المعاصر، فالعالم أضحى كالأسرة الواحدة في البناية الواحدة التي يسمع سكانها أصوات بعضهم بعضا، ويصيخون لزعيق وآلام جيرانهم، ولكن هل الجميع مصيبون في نقدهم وتحليلاتهم، أم أن الكلام شيء بينما الفعل والواقع شيء آخر؟ لأن هناك من يتفلسف وينظّر إذا كان الأمر يخص تصرف غيره، بينما لا يطبّق ذلك على ذاته سواء في واقعه الآني أم في مستقبله فيما لو وُضِع في نفس الموقف، فمنهم من يتربع على مناصب صدئت من طول جلوسهم المتعرّق عليها، حتى لو كانوا أصحاب مناصب صغيرة مثل بعض المديرين، أو رؤساء الأقسام الجامعية أو الإدارية أو حتى رؤساء مؤسسات حكومية أو مدنية أو إعلامية، كما أن منهم من يطالب بتوخي الأساليب المهذبة المجدية في الحوار بينما هو في كثير من تحليلاته الكلامية أو الكتابية بعيد كل البعد عن هذا الأسلوب الذي يحث الآخرين عليه.
ولا يمنع الحال الاستفادة من الخبرات ولكن لابد من الإفادة أيضا من الدماء الشبابية الجديدة، والأخذ بمبدأ تداول القيادة تداولا سلميا يسوده الاحترام المتبادل بين الصغير والكبير، لأن الواقع يثبت أنه حتى بعض المديرين الصغار يحوش النار لقرصه كما يقول المثل الشعبي الذي يصور الأنانية البشرية التي لا تفكر أحيانا إلا في ذاتها، فنرى هؤلاء يستأثرون بالدورات والانتدابات والترقيات لأنفسهم فحسب أو للمقربين منهم، دون تفكير في تدوير المصالح، مما يثير الإحباطات، وبالتالي اشتعال الأحقاد الاجتماعية.
إذن، فكما أصبح العالم أسرة واحدة فإنه يتوجب على أفراده وجماعاته أن يفكروا في مصالح بعضهم بعضا، فلا مكان للأنانية البحتة في هذا العصر المتقارب مكانيا وزمنيا، ولا بد أن يعلم الجميع أن المطالب الاجتماعية شاملة للدين والدنيا معا، فالذي يرى أن ما يحدث في بعض بلدان العالم العربي إنما هي مطالب وطنية اقتصادية بحتة، ولا دخل للدين أو القومية فيها، فهو قد نظر بعين ضيقة، وأكبر دليل على ذلك أن بعض المآخذ على السياسات العربية المنهارة جزء كبير منها هو مآخذ دينية، أو قومية، أو مآخذ فساد من وجهة نظر الدين والقانون والمجتمع معا.
ولننظر مثلا إلى ما حدث مؤخرا في السودان، حيث تحمس العالم الغربي بقيادة أمريكا لتقسيم السودان تقسيما قائما على مبدأ العرقية الدينية لأهالي جنوب السودان ، وسعى بعض رؤسائها السابقين أو المرشحين للرئاسة بكل جهدهم لهذا التقسيم العرقي المصلحي ، بل إنه حتى في مجال الانتخابات الرئاسية في كثير من دول العالم القوية منها والضعيفة على حد سواء يلحظ المراقبون لها تحمس أكثرية الجماهير في اختياراتها لجانب المحافظين، وتفضيلهم في معظم الأحيان على المتحررين.
لذا فالجانب الاقتصادي والجانب الديني ركنان أساسيان لدعم استقرار الدول الحديثة ، والفقر بالذات هو الوحش الكاسر الذي يحتاج من التعاضد الجمعي سرعة اغتياله فورا قبل أن يغتالهم، ومحاسبة الذات قبل محاسبة الغير هي أولى الخطوات في طريق العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية.