الحكومة تلهث ومعها المعارضة والنخب السياسية والثقافية وراء حركة الشارع الشبابي السريعة التي تسبق الوقت اللازم للتفكير ولصناعة القرار.. فصور الأحداث تتوالى بكميات لا يستطيع العقل البشري أن يحللها ولا أن يلملم شظاياها المتناثرة.
الحكومة تلهث ومعها المعارضة والنخب السياسية والثقافية وراء حركة الشارع الشبابي السريعة التي تسبق الوقت اللازم للتفكير ولصناعة القرار.. فصور الأحداث تتوالى بكميات لا يستطيع العقل البشري أن يحللها ولا أن يلملم شظاياها المتناثرة.
لا أحد يمكنه قراءة المستقبل القريب لهذه الأحداث، فلم يتم استيعاب ما حدث بعد.. إنه فيلم طويل لصور متحركة خاطفة لا كلام فيها.. ورغم أنه من المبكر قراءة النتائج التي ستفضي إليها انتصار الثورة المصرية، إلا أنه يمكن تسجيل بعض المظاهر العامة التي بدأت تتشكل في المشهد المصري. ولعله من المهم أن نحدد ما إذا كانت تلك ثورة أم انتفاضة. فالثورة ينتج عنها تغيير شامل للقيم وللمفاهيم وللنظام السابق، بينما الانتفاضة إعادة تصحيح وتعديل لتشوهات وفساد النظام السابق قد تطيح برأس النظام لكنها لا تطيح بالنظام كاملا. أيضاً من المبكر الحكم على ذلك، وإن كان يظهر أنها بدأت كانتفاضة ثم تحولت إلى ثورة. فلم تُسقط هذه الاحتجاجات رأس النظام وبعض رموزه فقط، بل أسقطت رؤوسا من المعارضة وكثيرا من النخب ليست السياسية فقط بل المثقفة أيضا.
لقد أصبحت أحزاب المعارضة التقليدية كالوفد والتجمع محل تساؤل، وبعض رموزها محل رفض، وحتى حركة الإخوان المسلمين التي يقال إن لها شعبية ضخمة، هي الآن في حرج شديد، إذ لم تلتحق بالثورة إلا في يومها الثالث، وكانت أعلنت في يومها الأول أنها لن تشارك في الاحتجاجات. ثمة أسماء ورموز ثقافية كثيرة أظهرت عجزاً أو فشلاً ذريعاً في القدرة على التعامل مع الأحداث، ولعل جابر عصفور يأتي على رأس القائمة. وبالمقابل ظهرت رموز شبابية جديدة في الشارع وفي الإنترنت وخاصة على الفيس بوك، لعل أشهرها الآن وائل غنيم وأسماء محفوظ ونوارة نجم ومدون الوعي المصري وائل عباس.. لكن يبدو أن قلة من المراقبين في داخل مصر وفي العالم كله لم يستوعب ماذا يعني أن يحصل شاب بسيط مثل وائل غنيم في يوم واحد على تفويض من مائة وثمانية وأربعين ألف موقِّع لكي يتحدث باسمهم كجماهير الثورة!
الثورة المصرية كسرت كل قوانين علم الاجتماع السياسي التقليدي، فهي ثورة الشارع الشبابي بلا تيار أو حركة سياسية أو حزب أو رمز أو قائد. ثورة تشكلت وانتظمت وحددت مسيرتها عبر شبكة التواصل الاجتماعي الإلكتروني. ومع ذلك فهي ثورة نظيفة جدا وسلمية جداً ومنظمة جداً.. من راهنوا على الفوضى، ومن راهنوا على التشدد الديني، ومن راهنوا على سطحية الشباب وتهورهم.. إلخ، كلها رهانات سقطت.. والرموز النخبوية سقطت معها أو كادت.
شبكة التواصل الإلكتروني هذه يمكن تخيلها اللجنة المركزية لقيادة الثورة.. إلا أنها ليست مركزية بل لا مركزية.. وليست عمودية هرمية بل أفقية تمتد على مدى الجماهير من كافة الفئات والطوائف. إنها ثورة تكنولوجية في التواصل والاتصال وفي الإعلام والمعلومات تتحرر من قبضة السلطات وتتشكل عبر الإنترنت والفضائيات والهاتف المحمول في سلسلة اجتماعية مترابطة من حلقات تصغر وتكبر، لتمتد السلسلة في شبكة واحدة تضم ملايين الأفراد.
هذا النمط في الاتصال والإعلام يتطلب مفاهيم جديدة وأدوات ومقاييس جديدة لفهم ما يجري في الثورة المصرية وفي غيرها مستقبلا. وملثما عملت تسريبات ويكيليكس ثورة غيرت طرق عمل الدبلوماسية الدولية، فإن هذه الثورة باستفادتها من التكنولوجيا الرقمية الإلكترونية ستغير قواعد اللعبة السياسية التقليدية، حيث لم يعد ثمة شيء قابل للستر وضعفت الثقة بالمؤسسات التقليدية في العالم كله وليس في مصر.. ومثلما انتقم مناصرو ويكيليكس من فيزا وماستر كارد للبطاقات الائتمانية لرفضهما قبول تحويلات المساعدات المالية على حساب ويكيليكس، فقد فعلت جوجل مع النظام المصري السابق عندما تعاونت مع تويتر لإيصال الرسائل الصوتية باختراع تكنولوجي جديد حين تم إيقاف خدمة الهاتف النقال والإنترنت في مصر.. وجوجل هي نفسها التي تتصارع مع الصين منذ أعوام ضد الرقابة الصارمة عليها. إنه زمن حر جديد، ومن يريد الاستمرار على الطريقة القديمة سيتحدى حركة التاريخ.
التعامل على الطريقة التقليدية هو ما وضع السياسة الفرنسية في حرج شديد لا تزال تعاني منه سمعتها بسبب موقفها التي أدركت هي نفسها مقدار حماقته، حين دعمت بلا حدود النظام التونسي قبل سقوطه بساعات قليلة. وهذه الطريقة كادت أن تضع الإدارة الأمريكية بنفس الحرج، لولا مراوغات باراك أوباما وبلاغته الخطابية، حتى أنه في الجمعة قبل الماضية أبدى خيبة أمله من جهاز المخابرات الأمريكية الذي تفاجأ بضخامة الاحتجاجات في مصر دون أن يتوقعها، رغم أنها بدأت بمبادرات علنية على شبكة الإنترنت! مما اضطر مدراء أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن يدافعوا أمام الكونجرس الخميس الماضي عن أنفسهم بأن أجهزتهم انشغلت بمطاردة تنظيم القاعدة فجعلهم عاجزين عن التنبؤ بوقوع اضطرابات في العالم العربي. ثم تملص مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر ومدير المخابرات المركزية الأمريكية ليون بانيتا إن بمقدور الأجهزة التنبؤ بوقوع الاضطرابات ولكنها لا تستطيع التنبؤ بالشرارة التي تدفع الناس للخروج إلى الشوارع. إنها تشبه مبررات ذكية لطلاب فاشلين.
انتقاد الموقف الغربي لم يأت من العالم العربي فقط ولا من مفكري الغرب الثوريين الذين اعتدنا على معارضتهم للسياسة الغربية أمثال نعوم تشومسكي وروبرت فيسك، بل أتى من كتاب آخرين كثر مثل ستيفن كينزر في نيوزويك الذي يرى أن احتجاجات مصر أظهرت حماقة السياسة الخارجية الأمريكية.. ومثل سلافوج زيزيك (المدير الدولي لمعهد بيركبيك للعلوم الإنسانية) الذي نشر في الجاردين مقالا رأى فيه أن رد الفعل الغربي على الانتفاضات الشعبية الحادثة في مصر وتونس تعكس نفاقا وسخرية.
بطريقة مسرحية، يبرر بانيتا رئيس الاستخبارات الأمريكية خطأ جهازه في الاستنتاج بأن الرئيس التونسي المخلوع سيبقى في السلطة: «إن الجميع كانوا يعتقدون أن الديكتاتور سيقضي على التمرد، وإنه حتى بن علي نفسه لم يكن يعلم أنه سيغادر حتى اضطر للقفز إلى الطائرة». أما لجنة الحكماء المصرية التي تشكلت قبل انتصار الثورة فلم تكن حكيمة بما يكفي لتصل إلى مستوى شباب ثورة مصر الذين سطروا بأيديهم تاريخا جديداً، مؤكدين أن التاريخ لا يعيد نفسه.