لا نتوقع من أيّ مجتمع أن تكون له شخصية وهو يعيش بيئة «هجينة» يختلط بها الشرق بالغرب، وكل بيئة هجينة هي بيئة ضعيفة بالضرورة لأنها لا تعرف ماذا تريد، ولا تستطيع الصمود أمام صراع الحضارات المتزايد. دعونا نقصر حديثنا على التراث العمراني وهذه الثقافة المتعلقة به، وهنا يتبادر سؤال مهم هل التراث هو المستقبل أم هو الماضي الذي ورثناه عن الآباء والأجداد؟.. في نظري إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الثقافية تشير بوضوح إلى ماهية الثقافة المحلية ومدى ارتباطها بالثقافات المؤثرة وبالتالي هل يجوز أن نطلق عليها صفة ثقافة هجينة أو لا؟.
إن المتتبع للتراث العمراني -تحديداً- يدرك مدى أهمية هذه الثقافة المحلية للشعوب باعتبارها بوابة عبور للمستقبل لثقافات ترتبط بجذورها الحضارية لتنطلق نحو المستقبل بخطى واثقة بلباس الماضي ليحفظ هذه الثقافة الصادقة من الذوبان في الثقافات الأخرى التي قد يتولد عنها في النهاية ثقافة هجينة بجينات ثقافية متناثرة من هنا وهناك سرعان ما تذوب هذه الثقافة الهجينة في الثقافات الأقوى تأثيراً، وهذا هو الفرق بين الاعتزاز بالتراث كثقافة وبين «الاغتراب في الماضي» عبرالتقوقع داخل أسوار التراث، فالهوية العمرانية كثقافة هي كالمولود ينمو ويكبر ويتطور محافظاً على جيناته الوراثية وعلى أصالته، ومن هنا كان لزاماً على أن أشيد بتجربة ثقافية ربما لم تسلط عليها الأضواء كما يجب وهي تجربة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان (أمين الهيئة العليا للسياحة) والذي تمثلت في برنامج المحافظة على التراث وتحويله إلى قضية وطنية من خلال المحافظة على الطابع العمراني والهوية الوطنية أكثر من المحافظة على التراث العمراني، وتجربة سموه التي انطلقت قبل رئاسته للجمعية السعودية لعلوم العمران عام 1414هـ، والتي ضمها كتاب «سيرة في التراث العمراني» هي تجربة جديرة بالرعاية والاستمرار وكان سموه قد جرب بنفسه إعادة بناء بيت الطين «العذيبات» وفتح المجال لزيارات طلاب كليات العمارة لزيارته والاستفادة من هذه التجربة الجديرة بالاهتمام، وإن كان الوعي بالتراث العمراني في المملكة لم يواكبها تطور على مستوى الكليات الأكاديمية إلا مؤخراً ولم يصاحبها تطور مجتمعي على مستوى القطاع الحكومي والخاص أيضاً.
أتذكر قبل سنوات أنني شاركت ضمن لجنة مكونة من السياحة والبلديات والتعليم لمناقشة بقاء البيوت القديمة الطينية وغيرها في الأحياء وفي القرى، وكانت البلديات تصر على إزالتها باعتبارها تشوه المنظر العام وتشكل خطراً في الوقت ذاته، ولكن عين السياحة ترى أمراً آخر يفوح منه عبق التاريخ، وبين تلك العيون ضاعت كثير من الآثار على ما يبدو، فالأمر أبعد من مجرد بيروقراطية بين قطاعين حكوميين، الأمر يتعلق بثقافة شعوب، وبمستقبل أمة وبمصدر سياحي هائل يتشكل عبر بلادنا على اتساعها، فالخلوة في المسجد النجدي والرغف في تشكيلات جدران مباني منطقة عسير والقلاع النجرانية والروشان الحجازية وتمازج الطابع الهندي والشرقي عموماً في ثقافات الإحساء وجزر فرسان كل هذا يعطي انطباعاً أن العمارة المحلية في المملكة ليس لها حدود رغم تعبيرها الواضح عن جغرافية مكانها الذي تتميز فيه، وهذا الفكر الثقافي يبدو مفقوداً في كثير من التصاميم المحلية، وعمارة « فرانك لويد رايت» مثال حي على ما أقصده، حيث تتعامل مع ثقافة المكان بمهارة، فمثلاً بيت الشلالات في ولاية بنسلفانيا الأمريكية والذي يظهر التداخل العميق بين العمارة والبيئة المحيطة، كذلك تصميم قاعة (twa) في مطار جون كنيدي، والتي صممها المعماري «ليل سيرانين»، حيث تظهر القاعة على شكل طائر، وغيرها من الأمثلة الأخرى المتناثرة في العالم، فهل أضيف إليها مثلاً «إستاد الملك فهد بالرياض» والذي بني على شكل خيمة؟.
وبالنظر إلى موارد التراث العمراني نجد أنه تم حصر نحو 1985 موقعاً للتراث العمراني منها 800 قابلة للاستثمار السياحي و170 موقعاً قابلاً للاستثمار المباشر، ونحن أمام هذه الكنوز العظيمة ندرك أنه لا تتم تنمية التراث العمراني بإعادة ترميم هذه المباني وإعادة فتحها للزوار بعد تحويلها إلى متاحف، بل بإعادة تأهيلها واستثمارها اقتصادياً عبر فعاليات ثقافية تعود بالفائدة على أهل المكان، حتى نحقق نظرية «تجاوز التراث» والتي ترمي إلى استيعاب التراث كفكر وتطبيق وتجاوزه إلى ما بعده، وهذا يتطلب ثقافة على المستوى الشعبي والأكاديمي، فهل نفتح أبواب التراث في بلادنا للمستقبل بدلاً من الاغتراب في الماضي؟.