سقوط نظام حسني مبارك لم يستغرق إلا ثمانية عشر يوماً من المظاهرات الغاضبة التي عمّت (فجأة) ودون سابق إنذار مصر من أقصاها إلى أقصاها؛ لم تبقَ مدينة مصرية لم تتظاهر مطالبة بتغيير النظام؛ وبعد مقاومة وعناد لم يجد مبارك بدًّا من الرحيل مسلّماً سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. غير أن مرحلة إسقاط مبارك هي في تقديري المرحلة الأسهل؛ فما تبقى من المشهد هو الأصعب والأخطر والذي قد يدخل مصر مرحلة من اللا استقرار السياسي وربما الأمني قد يمتد لسنوات قبل أن يستقر التغيير وينضج ويحقق أهدافه.
مصر منذ انقلاب 1952 تحكمها المؤسسة العسكرية. وطوال هذه المدة تحقق لهذه المؤسسة كثير من الامتيازات، سواء على مستوى السلطة والحكم أو الامتيازات المالية. فالمحافظات المصرية يحكمها العسكر، وأغلب المناصب في المستويات الإدارية الوسطى كذلك يتبوؤها العسكر، وبالذات المتقاعدين منهم، أغلب مواقعها. كما أن عدداً كبيراً من السفارات، فضلاً عن مناصب السلك الدبلوماسي، يستأثر المتقاعدون العسكريون بكم كبير منها. أن يتنازل العسكريون عن هذه المكتسبات بيسر وسهولة لا أظن أن ذلك ممكناً على الأقل في المدى المنظور؛ وفي الوقت ذاته فإن بقاء المؤسسة العسكرية، أو المنتمين إليها، يحكمون الحياة المدنية كما كان الوضع طوال الستين سنة الماضية يتناقض مع ما يريده المنتفضون، وما يؤكده خطابهم السياسي. لذلك فإن بقاء علاقة الاحترام المتبادل بين المؤسسة العسكرية والمنتفضين كما تبدو عليه الآن أمر شبه مستحيل، فالصدام قادم لا محالة، فالعسكريون لن يتنازلوا عن سطوتهم وسلطاتهم ومكتسباتهم، وفي الوقت ذاته لن يقبل السياسيون الجدد، ومن أداروا رحى الثورة، أن يتبدل الأشخاص وتبقى المؤسسة العسكرية هي المهيمنة على الحياة المدنية؛ وهذه هي (العقدة) التي قد تدخل مصر إلى مرحلة من التجاذبات والصراعات واللا استقرار السياسي فترة من الزمن، حتى يصل التوازن بين القوى المتصارعة، الثوار الجدد والعسكريون، نقطة يقبل فيها المتصارعون بأوضاعهم الجديدة.
الأمر الآخر، وربما الأخطر، والذي يمكن أن يستشفه المراقب من تجربة لبنان وكذلك العراق وتجربتهما مع الديمقراطية السياسية أن التدخلات الأجنبية، سواء الإقليمية منها أو الدولية، تكون حاضرة وبقوة في الصراع على الفوز من خلال صناديق الانتخاب، خاصة وأن الأحزاب المتنافسة ديمقراطياً تحتاج إلى تمويل، وفي الوقت ذاته تفتقر إلى قنوات تمويلية قوية تلبي من خلالها احتياجاتها، الأمر الذي يجعل هذه (الثغرة) بمثابة الممر الذي سيلج من خلاله أصحاب المصالح الأجنبية لتنفيذ أجنداتهم. ففي العراق - مثلاً - وكذلك في غزة، كان للإيرانيين، وللمال الإيراني، دور محوري في ترجيح كفة من فازوا في الانتخابات؛ وليس لديّ أدنى شك أن الإيرانيين سيعملون بقوة، وسينفقون بسخاء، لخدمة مصالحهم من خلال تمويل أحد الأجنحة الحزبية المتنافسة ديمقراطياً؛ خاصة وأن علاقة تصل إلى مستوى الحلف بينهم وبين (جماعة الإخوان المسلمين)، وهي جاهزة لتنفيذ الأجندة الإيرانية، كما فعل فصيلهم (حماس) في غزة؛ وهذا ما يجب أن يتنبه إليه المصريون أولاً والعرب ثانياً؛ فدخول إيران كلاعب رئيسي في الحياة السياسية المصرية مثل ما فعلوا في العراق وكذلك في لبنان، يعني أن إيران ستطبق على المنطقة، وتكون القوة الأولى المهيمنة على المنطقة.
مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك تكتنفها من التحديات الداخلية والخارجية ما يجعل المنطقة برمتها تدخل إلى مرحلة تاريخية جديدة تختلف اختلافاً كاملاً عما كانت عليه الأوضاع السياسية فيها قبل 11 فبراير من هذا العام.
إلى اللقاء.