يقولون إن الثورة الفرنسية هي أم الثورات ولكن ما حدث في تونس ثم في مصر أخرج تعبير «ثورة» عن إطاره القديم ووضعه في إطار معاصر وأسس لنوعية مختلفة جدا من الثورات: ثورة حضارية يتم فيها التعبير عن الرأي والمطالبات المشروعة دون الانفلات إلى الشغب والتخريب والدموية. ولم يستطع أي قدر من الدهاء والتكتيك والمكيافيلية تحويلهم عن هذا المسار الراقي إلى مسار التفاعل بالمثل مع محاولي استثارة الفوضى. وإذا كان غاندي في الهند - بعد جنوب إفريقيا - أسس لفكرة العصيان المدني, وعن طريق استجابة الملايين له وتوقفهم عن الاستجابة للأوامر العسكرية استطاعوا إخراج الإنجليز من شبه القارة الهندية جوهرة الإمبراطورية البريطانية العظمى؛ ومانديلا برفضه نظام الواقع الانفصالي الأبارتايد وسياسة الفصل العنصري استعاد جنوب إفريقيا من حكم العنصرية الأقلية البيضاء ؛ فإن ما حدث في الشرق الأوسط خلال شهر يناير الماضي فاجأ العالم كله إذ أضاف نموذجا آخر لاسترجاع الحقوق للشعب: ليس من مستعمر غريب غاشم، بل من سطوة حاكم محلي اختير برضى الشعب ثم غفى على الكرسي مستحلا لنفسه البقاء أبدا بينما يعيث المقربون منه استغلالا لمواقعهم دون الاكتراث بزوال رضى الشعب عنه. وليس بقيادة فرد يعتقل بل باتفاق المجموع المستعصي على الإيقاف.
هي فعلا حالة مختلفة ومشرفة يستحق فيها الشباب المعنيون الإشادة والدعم لإعادتهم الأمر إلى نصابه وحسن قدوتهم واجتذابهم لبقية المجتمع، واستعادة حق الشعب بأكمله في تقرير مصيره ومن يتولى قيادته وبأية صيغة.
فعلا هو الوضع الذي ما كان يجب أن يفاجئ أحدا: الشباب في منطقة الشرق الأوسط هم الفئة الأكبر ثقلا من حيث العدد وبالتالي هم من يستطيع أن يكون المحرك الحيوي لكل تطور ومستجد في المنطقة, ولذلك لا يمكن لأي قيادة واعية الاستمرار في تجاهل أحوالهم ومتطلباتهم وطموحاتهم أو تهميشها في معادلة بناء المستقبل، أو وضع خطط إستراتيجية للغد القادم.
فما هي مواصفاتهم؟ لعل أهمها ما يلي:
1 - إنهم أغلبية المجتمع حيث يتجاوز عدد من هم تحت الثلاثين عاما نسبة 70 في المائة من أعداد المواطنين. بمعنى أن مشاعرهم تمثل المشاعر السائدة في أغلبية المجتمع.
2 - إنهم - بسبب أوضاعهم المعيشية من حيث البطالة الحقيقية والمقنعة مشحونون بالمشاعر السلبية نحو واقعهم بغض النظر عن توجهات أيديولوجياتهم - بسبب معاناتهم وعدم توفر سبل العيش الكريم الآمن المطمئن على أرض الواقع.
3 - إنهم فئة متعلمة نظرا لانتشار التعليم وتقلص الأمية عما قبل نصف قرن حين اندلعت الثورات العربية الأولى بقيادة العسكر.
4 - إنهم على تواصل فعال عبر الوسائل الحديثة ووسائط الحوار العام مثل شبكة الإنترنت والفيسبوك والتويتر. وهو تواصل يستعصي إيقافه.
5 - إنهم يفهمون جيدا أن الوطن للجميع ولا يقبلون أن تنحصر فرص بناء الذات في فئة معينة رافضين أن تنمو طبقة الفقراء الكادحة وتصغر طبقة المجتمع الوسطى المؤهلة بقيم العمل.. بينما تظل طبقة الأثرياء محددة في فئة صغيرة الأعداد تزداد ثراء وتحكما في الفرص وتكدس الثروات.
6 - ومع هذا كله فهم لا يرغبون في تحويل الوطن إلى ساحة تخريب وتدمير وفوضى بل يصرون على التعبير عن رأيهم في الأوضاع بصورة راقية وحضارية تركز على التغيير الإيجابي وحماية منجزات الوطن.
ما الذي يعني هذا لبقية المنطقة أو حتى للعالم النامي كله حيث العالم كله يراقب ويواكب ما يحدث عبر كل وسائل الإعلام والنقل المباشر من موقع المستجدات؟
أفسحوا موقعا للشباب المتعلم الواعي للمشاركة القيادية الفاعلة في اتخاذ القرار الوطني وبناء الوطن ولو بالرأي الصريح. فالوطن يعني لهم حقهم في العيش الكريم المستقر.. ويعني لهم المستقبل وضرورة إتاحة الفرص وديمومة النمو.. بينما يعني لغيرهم مواصلة أوضاع الماضي المتحيزة لفئة دون أخرى.