الجراحة بـ(المنظار) كما وصف الأستاذ محمد حسنين هيكل ما تم في (تونس) لإنهاء حكم الرئيس (زين العابدين بن علي) في ثلاثة أيام.. هو وحزبه الدستوري الذين تربعوا على سدَّة الحكم ثلاثة وعشرين عاماً، إذا استبعدنا سنوات سلفه المجاهد الأكبر، والجراحة الكبرى ب (الليزر) - بالقياس نفسه -
التي جرت ولا تزال تجري - وقد دخلت يومها الثامن عشر - في ميدان التحرير بالقاهرة وبقية ميادين كبريات المدن المصرية في الإسكندرية والسويس وأسيوط وسوهاج والمحلة الكبرى وبني سويف، لإنهاء حكم الرئيس حسني مبارك الذي امتد لاثنين وثلاثين عاماً تحت قانون الطوارئ.. كانتا مرشحتين ل (التكرار).. ربما بصورتين مغايرتين أو متماثلتين..؟ في كثير من الأوطان العربية.. خاصة في تلك الجمهوريات التي مضى على رئاساتها ما يزيد على العشرين والثلاثين عاماً، وعلى أحزابها الحاكمة ذات القدر من السنين.
وقد كانت الجمهورية اليمنية ورئيسها الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه الحاكم (حزب المؤتمر).. في طليعة تلك الجمهوريات العربية المرشحة لتكرار أي من التجربتين التونسية أو المصرية على أرضها.. ليس لذات الأسباب التونسية أو المصرية مجتمعة وإن تقاسمت اليمن معهما بعض تلك الأسباب بصورة أو بأخرى ك (الشكوى من معدلات الفقر والبطالة واقتسام ثروات الوطن بين الأقلية الحاكمة على حساب الأكثرية المحكومة)، ولكن بسبب رئيسي وجوهري وإن كان مشتركاً.. أيضاً: هو هذه (الإطالة) في الحكم وما تسببه من تفش لأمراضها السياسية المصاحبة والمعروفة (الرشوة والفساد والمحسوبية والعنجهية والبطش.. إلخ)، وما تكدسه في المقابل من عداوات المؤهلين للحكم والمحرومين منه عنوة.. إما بسبب (التزوير) في الانتخابات أو (بشراء) أصوات الناخبين - من خزينة الدولة - لصالح أغلبية الرئيس أو حزبه الحاكم، لكن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح.. استطاع ب (ذكائه) وخبرته السياسية، وتجربته الطويلة في الحكم التي حفلت بالكثير من المصاعب والمرارات والانكسارات والانتصارات.. أن يجعل من (الجراحتين) أو الثورتين الشبابيتين التونسية والمصرية إلهاماً له، وجرس إنذار ب (الإخلاء).. لا يصح تجاوزه أو إغفاله وغض (السمع) عنه؛ لذلك اتخذ قراره الراشد والشجاع مساء يوم الأربعاء - قبل الماضي - ب (دعوة) أعضاء مجلسي النواب والشورى.. وبصورة مفاجئة لاجتماع مشترك بينهما، ليقول لهم: (لن أكابر.. وسأقدم التنازلات تلو التنازلات من أجل المصلحة الوطنية)، و(سأقول: لبيك.. لما يتم التوصل إليه عبر الحوار مع المعارضة)، و(لن يكون هناك تمديد، فلا توريث، ولا إعادة عقارب الساعة للوراء).. لأنه (لا يجب أن نهدم ما بنيناه في 49 عاماً)..!؟
صحيح.. أنه كان مقرراً أن تخرج مظاهرات في اليوم التالي (الخميس)، وقد اتفقت أطياف المعارضة اليمنية من (المشترك، وحراك الجنوب، والحوثيين).. على تسميته ب (يوم الغضب)، لتطالب فيه ب (سقوط) الرئيس ونظامه.. بينما كانت تستعد مظاهرات أخرى مؤيدة ل (الرئيس) من قِبل حزبه (حزب المؤتمر الحاكم) واليمنيين الصامتين من غير الحزبيين والمسيسين.. وهو ما كان سيؤدي حتماً إلى اشتباك جماهير المظاهرتين (المعارضة والمؤيدة) في بلد يحمل معظم أبنائه السلاح باعتباره جزءاً من تراث الرجولة اليمنية وقوام شخصيتها، وأن (الرئيس).. استبق ب (جملة) قراراته أمام (المجلسين).. قيام تلك المظاهرات وقطع الطريق عليها..!!
فإن أخذنا بهذا القول المشكك في دوافع (الرئيس) ومصداقية تصريحاته لأعضاء (المجلسين) على ضعفه.. فإن حالة (الاستباق) هذه التي أقدم عليها لابد أن تحسب له ولذكائه السياسي، ولا تحسب عليه.. فقد أوقفت على الأقل صداماً بين أبناء الوطن الواحد، وحالت دون إراقة دماء محتملة بينهما لا يعلم مداها إلا الله.. حيث سارت المظاهرتان نتيجة تلك (القرارات) في موقعين مختلفين: (المعَارِضة).. حول جامعة صنعاء، و(المؤيدة).. في ميدان التحرير من قلب العاصمة لتكون تعبيراً سلمياً ديموقراطياً عن رأي طرفيها، وليس رفضاً لتلك القرارات التي أعلنها الرئيس وينتظرها الشارع اليمني بفارغ الصبر.. ربما مع بدء دورته السادسة في سبتمبر من عام 2006م.. خاصة وقد انطلقت معها أو سبقتها شائعات رغبته في (توريث) ابنه المقدم أحمد علي عبد الله صالح رئيس الحرس الجمهوري.. وهو ما كان يرفضه اليمنيون جميعاً حتى المقربون من (الرئيس) باعتباره عودة ل (الإمامة) التي ألقوها خلف ظهورهم بعد ثورتيهم في السادس والعشرين من سبتمبر من عام 1962م ..في الشمال، والرابع عشر من أكتوبر من عام 1963م.. في الجنوب.
إن الدافع الحقيقي لتصريحات الرئيس علي عبد الله صالح: بأن (لا تجديد) و(لا توريث) و(لا تعديل) للدستور بما يخدم أياً من تلك الأهداف وما شابهها.. هو ما تلاحق حدوثه في كل من تونس ومصر على التوالي، مصحوباً برياح التغيير التي حملتها أصوات المتظاهرين ولافتاتهم صوب تلك الحكومات -الجمهورية- التي شاخت أو أطالت في حكمها.. حتى ليبدو لي وكأن الرئيس وهو يتابع تدفق تلك الأحداث، وما نجم - شعبياً - عن تصريحاته للمجلسين.. قد تذكر ذلك اليوم من أيام شهر مايو من عام 1983م.. عندما أعلن عن (عدم رغبته) في الترشيح لولاية رئاسية ثانية، وكيف خرجت الملايين في طول اليمن الشمالي وعرضه وهي ترفض قراره ب (عدم الترشيح)، لتكون حشودها وهتافاتها هي أقوى ترشيح له لدورة ثانية.. بينما يقابل اليوم إعلانه (بعدم التجديد).. ربما بذات الفرحة وذات السعادة، لكن ليس للرئيس أن يأسو.. فهذه هي (الديموقراطية).. التي دعا إليها وحرص عليها، ودافع عنها، والتي تعني في مقدمة ما تعنيه: التبادل السلمي للسلطة.. إذ إن هذا هو اختبارها الحقيقي، الذي سيجعل منه رمزاً من رموز الوطنية اليمنية ومرجعية يحج إليها.. قبل وبعد ترجله عن (الرئاسة) في عام 2013م.
لقد أحسنت يا فخامة الرئيس ب (قراراتك) الثلاثة (لا تجديد، ولا توريث، ولا تعديل)، الأمر الذي دفع ويدفع محبو اليمن، الحريصون على حاضره ومستقبله.. لأن يتطلعوا إلى قرار (رابع) يشمل العفو الصريح والجاد والأكيد.. عن كل المعارضين السياسيين في الخارج ليعودوا لوطنهم وليسهموا في دعم تنميته وترسيخ وحدته..؟ ف (اليمن).. لكل اليمنيين من أبنائه..!
وأحسنت ب (خوفك) على يمن (الوحدة)، الذي سعيت إليه منذ (اتفاق تعز) في سبتمبر من عام 1981م، وإلى أن تحقق - في تعز - في الثاني عشر من مايو من عام 1990م، إلى أن تم الإعلان عنه - في عدن - في الثاني والعشرين من مايو من عام 1990م, وإلى أن دافعت عنه أمام جحافل الأعداء منفرداً.. في عام 1994م.
وأحسنت يوم أن أعدت بناء (سد مأرب) بعون من حكيم العرب (الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان).. ليقف التاريخ مجدداً على قدميه من وسط الركام.
وأحسنت بما قدمته وصنعته من أجل العاصمة الاقتصادية (عدن).. لتستقبل ضيوف خليجي عشرين وهي ترفل في أجمل ثيابها.
لقد كنت يا فخامة الرئيس.. (بطلاً) مقداماً في محن الوطن اليمني وملماته.. فأصبحت اليوم (رمزاً)..!!
على أن الأعجب.. في متابعة مشاهد هذا التغير الوطني الجارف والرائع في كل من تونس ومصر ف (اليمن)، والمحاط بقلوب العرب جميعاً.. هو هذا الحضور الأمريكي الملح والفاضح وغير المبرر طوال ساعاته وأيامه، وكأن (العم سام) يريد بحضوره الإعلامي المكثف.. أن يقول إنه (السبب) في هذه البهجة العربية، بينما الحقيقة التي يعرفها وينكرها، أن أحد أسباب هذه البهجة أو السعادة العربية.. هو الخروج المأمَّل من مظلته الباطشة الظالمة والمنحازة.. وتنفس هؤلاء، والعرب من خلفهم.. بعض هواء (الاستقلال) والحرية بعيداً عنه!