إذاعادت الحياة الطبيعية إلى الشارع المصري بشكل هادئ وسلس كما نتمنى لها ذلك، بعد أن تنحى الرئيس المصري حسني مبارك أخيراً عن الحكم، فإن الشعب المصري يثبت من جديد، أنه مع مصرالأهرام والقناة والعبور والريادة الحضارية طيلة آلاف السنين.
ليس مع العنف والتدمير وتقزيم الرموز الفكرية والسياسية المصرية التي تجاوزت محيطها إلى آفاق عربية وعالمية، ولا مع تخريب مصر والإضرار بحضارتها ومكتسباتها. وأنه كان مع مصر ضد الفساد والهيمنة والتسلط، مع الحرية والعدالة والديمقراطية، وأنه استطاع تجاوز محنة التحول الصعب، وهي المحنة التي كشفت كيف تتدخل القوى الصغرى والكبرى على حد سواء في مصائر الشعوب الحرة، ابتداءً من قناتي الجزيرة والعالم الفضائيتين، إلى أميركا وبريطانيا من الدول الخمس العظمى في مجلس الأمن، حيث تدير القناتان حرب الشوارع فضائياً، وتعمل أميركا وأوباما على توجيه الأحداث كما تتمنى.
أكتب هنا عن انطباعات شخصية بشكل محايد، فلست مع مبارك الرئيس ولاضده، ولست مع من نادي برحيله ولا ضده، ولكني مع مصر العربية، ومع المواطن المصري الشقيق. رفع ميدان التحرير في وسط القاهرة على مدى عدة أيام، مطالب سياسية ومدنية وحقوقية يمكن أن يقال: إنها تعكس تفكير الجيل المصري الجديد. جيل يبحث عن دور في بناء وطنه، ويبحث عن تعليم وعمل وحياة حرة كريمة. مثل هذه المطالب المشروعة لم يستطع النظام توفيرها طيلة ثلاثة عقود، في بلد وصل عدد سكانه إلى ثمانين مليون نسمة. لو تخلص النظام من زمرة المستفيدين والمفسدين والضاربين بعصاه بدون حق، لاستطاع أن يلبي ولو بعضاً مما يحلم به المواطن المصري في وطنه.
كل الطرق المشروعة تؤدي إلى فهم مشترك بين الفرقاء. ومنها الحوار والتظاهر السلمي الذي أعلن عنه المتظاهرون قبل الخامس والعشرين من يناير، إلا أن المشهد جاء بشعاً للغاية في عدة أيام تلت اليوم الأول للتظاهر. تعرضت مصر في تاريخها وأسواقها وناسها واقتصادها ورموزها إلى عدوان صارخ. مَهماكان الفاعل، من جانب المتظاهرين الغاضبين، أو من طرف مدسوسين وبلطجية وغيرهم كما أشيع، فالنتيجة أن الفاعل واحد، هو مصري، وأن المتضرر، هو مصر والمصريون.
لا أحد يستهين بمصر كدولة وشعب. مصر حصن سياسي وعسكري عربي أصيل، ومنارة علمية وثقافية شامخة، وركيزة أساسية في النظام العربي الأمني والسياسي الذي تعرض ويتعرض إلى محاولات خبيثة، لتقويضه وهدمه واختراقه منذ عقود مضت. مصر هي الجانب العربي الذي خاض حروباً عديدة مع إسرائيل، انطلاقاً من عروبتها ومسئوليتها الإسلامية والعربية، ونيابة عن الفلسطينيين أصحاب الأرض المغتصبة أنفسهم أحياناً، وقدمت مصر من الشهداء في هذه المعارك، أكثر مما قدمه أصحاب الأرض أنفسهم، ومع ذلك لم تسلم من طعنات الأخ الذي ظلت تضحي وتغرم من أجله..!
رأينا كيف وقفت مصر مرات عدة في وجه عدوان العربي ضد أخيه العربي. وقفت في وجه الحشد العراقي لغزو الكويت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1961م، ووقفت وأسهمت في رد الغزو العراقي عن الكويت في عهد الرئيس حسني مبارك سنة 1990م. لن تنسى ذاكرة العرب والخليجيين على وجه خاص مشهد الخزي العربي في قمة القاهرة سنة 1990م، عندما وقف الرئيس مبارك وحوّلها إلى حسم لصالح الحق ووحدة النظام العربي، الذي كان يتعرض لمؤامرة قميئة من العرب أنفسهم. حسني مبارك في وقفته الرجولية تلك؛ كان يمثل مصر وشعبها. إذا تخلخلت هذه الركيزة المصرية التي تسند الركيزة السعودية في الجامعة العربية، وتخلقان معاً ضابط التوازن في عالمنا العربي، فهناك أكثر من طرف ينتظر فرصة الضعف والتشرذم هذه. إسرائيل وإيران في المقدمة بطبيعة الحال. إن إسرائيل لن تعبر إلى البر الأفريقي بسهولة، في ظل دولة مصرية قوية، وإن إيران لن تجد يدها مطلقة بحرية في غزة وسوريا ولبنان وشمالي إفريقيا وأنحاء الجزيرة العربية، إذا ظلت مصر والسعودية حجر زاوية في المنظومة العربية.
مبارك هو الرئيس الرابع في الجمهورية المصرية، وجاء بعد أن وقع الرئيس السادات اتفاقية الصلح مع إسرائيل. اختار مبارك خيار السلام. لم يكن هناك عدو خارجي يشاغل به الشارع المصري كما كان يفعل الذين سبقوه، وحتى بعض القيادات العربية المعاصرة المستنسخة أصلاً من الفكرة الشمولية، تفعل ذلك اليوم. لو رزق مبارك ببطانة صالحة تكرس عملها في تحقيق تنمية متوازنة مع النمو السكاني المتسارع في مصر، هل كان وقع الذي وقع..؟
ماذا لو أن الرئيس حسني مبارك، لم يختر طريق السلام، وجعل الشعب المصري في حالة حرب دائمة مع إسرائيل، هل وجد الشارع المصري فرصة للتفكير في الذي هو فيه اليوم..؟
لو فقط.. ولو أن (لو) هذه؛ تفتح عمل الشيطان، كما جاء عن رسولنا المصطفى (صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه). فعسى ألا يأتي علينا اليوم الذي عناه الشاعر:
رب يوم بكيت منه؛ فلما
صرت في غيره بكيت عليه