هناك 16 مليون شاب مصري من المؤكد أنهم وُلدوا بعد دخول الإنترنت لمصر عام 1992م أو قبلها بقليل (يوجد 16 مليون مستخدم للإنترنت في مصر، أي ما يوازي 21 % من تعداد السكان طبقاً لأحدث تقارير الاتحاد الدولي للاتصالات 2010).
هؤلاء شكَّلوا مجتمعاً موازياً جديداً وغير مرئي، وربما غير معترف به من قِبل المجتمع الواقعي، له مواصفات وملامح مختلفة تماماً، تخلقت في فضاء بلا سقف وبلا قيود، تشكَّلت أحلامه وطموحاته في غرف ضيقة وظروف معيشية خانقة، لكنها بلا غطاء, معتمدة على ثورة معلوماتية تكشف له ما يدور في المكاتب الفارهة والفلل الباذخة التي يمتص أصحابها دم الشعب بمباركة السلطة أو عدم محاسبتها وملاحقتها لهم، والنتيجة واحدة.
تزاوج المال والسلطة مع تعدد وتنوع في مصر، وأصابه ما أصاب مؤسسة الزواج التقليدية؛ فصار مسياراً ونهارياً وربما متعة أيضاً؛ فأصبح الوزير تاجراً يخدم شركاته بنفوذه، وعضو مجلس الشعب مستثمراً في كل شيء من الحديد إلى القرى السياحية، وأصبح وزير النقل يملك عبَّارات قد لا تخضعها الرقابة إلى اشتراطات الجودة.. نما الإعلام التجاري، وكَبُر وتضخَّم حتى تورَّم؛ فاقتات على آلام الشعب. تاجرت هذه الفضائيات بجراح الناس، ولم تساندهم كما ينبغي حين ثاروا؛ لأنها كانت تعتاش على فقرهم ومرضهم، ولم تكن معهم يوماً. اختفت النجوم الذين كانوا يحملون الهدايا ويجوبون تحت فلاشات الكاميرات ممرات المستشفيات ويربتون على أكتاف الأطفال المرضى المنهكين وهم بكامل ماكياجهم وزينتهم وتسريحاتهم!!
رسّخ التلفزيون المصري عبر الأجيال صورة الموظف الحكومي النزيه الذي لا تمنحه الوظيفة كلما علت إلا نزاهة وبُعداً عن الشبهات وراتباً بالكاد يسد احتياجاته.. لم يجد الشباب هذه الصورة متمثلة في كل الموظفين الكبار، بل وجدوا أن النزاهة تقل مع الارتفاع الوظيفي ومع امتلاك النفوذ إلا في القليلين الذين كانوا هم أمل الشباب الجديد وموضع ثقتهم.
بل إن السنوات الأخيرة تكشف للمتابع أن الوظيفة العالية تذهب عنوة لرجال الأعمال ولمحتكري السوق، ولا يخفى على مَنْ تردَّد على مصر في السنوات الأخيرة ظاهرة التباين الواضح بين طبقتين (الثراء الفاحش والفقر المدقع) حتى أنني حزنت قبل عامين على حال رجل شرطة مسنّ سألني مباشرة مالاً وأنا أقف في إشارة مرور. لقد حزنت على مصر التي أُحبُّها وأُحبُّ تاريخها الجميل، وأتفاءل اليوم بمستقبلها، وأحلم لأهلها بأن تؤول الأوضاع إلى الاستقرار وترسيخ مبادئ العدالة وتحقيق الحريات وتقويض كل مظاهر الفساد كما يحلم تماماً شباب ميدان التحرير المسالمين.. شباب المجتمع الموازي الذي نما وتشكَّل في ظل تغييبه عن الواقع وعدم الالتفات لسماع صوته ورأيه واحتياجاته ومطالبه التي ظلت تقابَل بالسخرية والتقليل الدائم وتجاهل كل ما تكتبه وتنتجه وتكشفه أصابع هؤلاء الشباب من خلف شاشات الإنترنت وعوالمه الجديدة والمتلاحقة بسرعة ضوئية فاجأت العالَم بما فيه أمريكا.