نحن العرب نرمي حكمتنا في لهيب الغطرسة، نبحث عن عشبتنا الصغيرة اليانعة في مجاري السيول الكبيرة، نحاول ترقية أنفسنا بتنهيدة فراشة، نبحث عن قرميد ولآلئ وبلور وكريستال وماء ووردة حمراء لكننا لا نطيل النظر عاليا، ولا نرمق الأفق العالي الذي تتزاحم فيه الأنجم، لليل
عندنا بروق معفرة بالوجل وبالرماد، عبثا نحاول زرع البذور، وبعناد العناد نمنح أنفسنا هبة لنار الأعاصير القادمة برقصة غير بارعة وغير ذات معنى، ليس لنا شمس دافئة ولا فصول تلمع بنور الأماني، نحاول أن نضاجع السحابة، لكننا لا نقوى على الحراك الجميل، نستميت في أن ننحت أسماءنا ونركل إلى الخلود في شهوة محيرة، نتعرى من لحاء نقيضنا وجرارنا المليئة بالفجيعة وبالنعاس، لرغباتنا الجائعة تلوث، نحاول بعجز نسف الأمكنة، لنا مسرحيات هزيلة وإشكاليات بائنة وقصص محزنة وروايات لها لون السواد، لا نحاول أن نصحو من سباتنا الطويل، حتى تداهمنا النهايات الخطيرة، أبوابنا موصدة ولها انزواءات مثل عنكبوت ينسج أحلاما كبيرة قد تشل أيامنا الآتية، نتحرك بأصوات ملوثة تشبه صوت ريح عاتية، لكنها بلا رشقة ولا حذر، نحن نحتفل بسقم، ونحلم بفاكهة رمان وماء عذب ونيزك بهي، مفتاح الحلول بين أيدينا لكننا لا نحدق بحدة، في عيوننا غبش وبعض ماء، لا نقيس المسافات بدقة متناهية، نضع أنفسنا أمام النوافذ الكبيرة لتصفعنا الرياح العاتية بقوة وبلا هوادة، التمييز يصعب عندنا بين الرغبات الجامحة والأحلام المنفية، لا شيء يزعجنا غير تلك الأصوات التي تديم زخم القلق على هياكلنا الزجاجية الراقدة في الحدائق الخلفية العتيقة، أجسادنا تنز بالكثير من العرق والخوف، شتلة الورود التي غرسناها قبل سنوات لم تمت لكنها شاخت، لأن أرضها طفحت بالملوحة حتى صارت بلا خصوبة، لدينا المحراث الذي يقلب الأرض، لكننا لم نتأمل يوما خيوط البخار الصاعد من الأخاديد الداكنة المنتفخة مثل جرح عتيق، أبخرة الرغبة المودعة في أجوافنا لها رائحة غير نقية لأن الهواء الناقل لها بغيض، فشلت كل محاولاتنا في إنتاج التفاح والورد وأعواد القصب، وأخذنا نزرع براعم صغيرة في أول الربيع سرعان ما يدهمها الشحوب في الشتاء، يأتيها الجليد ببطء حتى يتمكن منها فتصبح مجرد عيدان رقيقة مغروسة في أرض بوار، لنا سوداوية ومرارة وتآكل وخراب ووجع وهذيان وهروب ويتم وانكفاء ونكوص وفداحة خسارات وغزارة تناقضات وفوضى وتفريط ومكائد وفجيعة وإيهام للذات وحماقات وإهدار قدرات وكسل ممنهج، لنا احتفاء متقارب بالموت وتراتيل النهايات، لنا جرح هائل امتد حاضنا دم يأسنا، كل شيء لدينا غامض ومضبضب وكلام يشبه اجترار الحكايا، لنا تربة وماء وهواء لكننا مازلنا رهائن للخوف والشك وعدم اليقين حتى تهمشنا وتهشمنا، نجومنا التي كسرت ثلمة الليل منحتنا شيئا غامضا، صباحاتنا شاخت حتى ماتت من حولنا زهور الياسمين وأشجار النخيل، مثل العميان نحن نتلمس طرقنا في الظلام المخيف، أنشودة العودة صهرت صدى في وديان الأماني، لأن الفراغات التي عشناها ملأت جيوبنا فزعا حتى أصبحنا مثل الفانوس لكن بلا زجاجة، خطواتنا متعثرة وطرقاتنا متعرجة وظلنا غير مستقر وأحلامنا مائلة ووجوهنا لا تليق بالمطر، قطرات الندى تدغدغ زجاج نوافذنا المكسور ثم تنساب بهمس عازفة سيمفونية الشتاء الثقيل، ضحكاتنا تهددها الليالي بوحشة، أصابع ليلنا المكفهر تنساب في الأركان وفي الزوايا بلا استئذان، بينما تنساب أشعة فوانيسنا الشاحبة على وجوهنا العتيقة، لنا عقول لكننا نخون أنفسنا، هكذا نحن العرب، المحزن أن لا أحد منا يفكر بغرس شتلة ورد نقي، بقدر ما نحن منشغلون بزراعة أشياء أخرى غامضة يصعب تخيلها، أن ثمة أشياء أكاد أحسها في قلب حديقتنا العربية وهو التناسل الكبير في ممارسة العبث والركض من عدم إلى آخر سواه.