ما يحدث في مصر هو ثورة بكل ما تعنيه الكلمة، والثورة الشعبية حالة استثنائية في التاريخ الإنساني، ولا تحدث إلا نادراً، وإذا حدثت تتراجع النخب ويتقدم الشعب لإحداث التغيير، ولا يمكن بأي حال القيام بدور القاضي فيما يحدث، أو تحديد من صاحب الحق في المشهد البركاني، لأنها حركة خارج دوران عقارب الساعة، إذ تتوقف حركة التاريخ الأفقية والرتيبة، وتبدأ حركة متصاعدة في اتجاه التغيير، وأي محاولة للتأثير على مسارها قسراً أو إيقافها بالعنف ستقذف بالبلاد إلى الكارثة، ولا حل أمام هذا الطوفان البشري إلا بالاستجابة إلى مطالبها أو الجحيم..
الثورة الشعبية بمثابة الطلاق بالثلاث بين الشعب والسلطة، وتعني أن حالة الود أو التراحم بينهما قد انكسرت بلا رجعة، ولا بد من إتمام حالة الانفصال النهائي، وتعد الثورة الحالية في مصر أوضح صورة للصراع بين السلطة والشعب، بينما كان الحال مختلفاً في تونس، لأن النخبة استطاعت الخروج بالبلاد سريعاً من مأزق الفوضى عندما طلبت من الرئيس الخروج عاجلاً، بينما في مصر ظهرت محاولات التنسيق بين أفراد السلطة والنخب ضد رغبة الشعب، وذلك من أجل استغلال الزمن كعامل تنهار بسبب بطء حركته القوى الشعبية، لكن يبدو أنها ثورة خارج دائرة الزمن، بدأت في عالم افتراضي، و لم يقم بها العمال أو الفلاحين كما هو حال الثورات في التاريخ القديم، فقد كان لجيل الشباب الدور الأكبر في تجاوز جدار الخوف من خلال عبقرية الاتصال عبر قنوات الإنترنت..
أوجه التشابه بين الثورتين أن أجهزة الحكومة في تونس ومصر لم يحسنا قراءة المستقبل، فقد أفقدتهم سكرة السلطة رؤية تصاعد فورة الغضب بين الناس، وأعمتهم خطابات السخرية والنظرة الدونية لشعوبهم من تقدير حاجات الناس للتغيير، وقد استطاعت الجماهير في غفلة من كبرياء السلطة كسر حاجز الخوف الذي بنته السلطة لعقود بينها وبين الناس، لتحدث الثروة وتخرج الجماهير، وليقولوا مالم يستطيعوا أن يصرحوا به لعقود طويلة ..، وكان منظر السقوط على مرأى عيون العالم في عصر الإعلام الشعبي..، لم تجد استجداءات السلطة المتأخرة في وقف اندفاع الجماهير، سواء بالفهم المتأخرأو بالاعتراف أن مطالب الجماهير مشروعة، أوأن مطالب التغيير الشعبية ستكون شعار المرحلة القادمة..،
كذلك سقط المثقف النخبوي في القدرة على قراءة الواقع، وقد رأى الكثيرون صورة ذلك الفشل في قبول الناقد المثقف جابر عصفور لمنصب وزير الثقافة في الحكومة الجديدة، لكنه تراجع بعد فوات الأوان وقدم استقالته لأسباب صحية!، وقد قدمت الثورة المصرية الحديثة الأدلة الكثيرة أن النخب الثقافية ليس لهم تأثير كبير على حراك الشارع..، فالصالونات الثقافية المؤثرة لم تعد تلك التي تديرها قوى السلطة في قاعاتها الرئيسية، لكنها انتقلت إلى فضاء الحرية الواسع، ف(الفيسبوك) أصبح أكبر صالون ثقافي في التاريخ، تحدث فيه اتصالات لا حدود لها بين الناس، وذلك للحوار حول قضاياهم والتواصل فيما بينهم، وتمتد تأثيراته إلى الأجيال الشابة، مما جعل من الثقافة شأناً عاماً، لا حكراً على طبقة أو فئة محددة..
كان موقف الإخوان المسلمين في أحداث مصر صورة صارخة لسقوط الفكر المؤدلج برغبة القفز إلى كرسي السلطة السياسية، فقد انقسموا إلى ثوريين في اتجاه، وإلى مفاوضين مع السلطة في اتجاه آخر، وقد انكشف موقفهم المتناقض أمام الجماهير، وكان ذلك دليلا آخر على سقوط الأيدولوجيات من مختلف الأطياف، وأن دغدغة مشاعر الناس بالوعظ والحديث من خلال الشعارات لم يعد له مكان بين مطالبهم المشروعة....
في ثورات مصر وتونس ظهر بوضوح للملأ أن الأفكار والخطابات السياسية والشعارات الرنانة لم تعد مطلباً شعبياً، فالناس يريدون كرامتهم، وأن يعيشوا على أراضي أوطانهم آمنين تحت مظلة قوانين أعمدتها العدالة والمساواة والعمل والعيش الكريم، وأن تكون الحقوق المدنية محمية بقانون وطني لا يفرق بين الناس، ولا يقصيهم في حق الوصول على عمل على أرض أجدادهم وأنهم أولى بمنافع البلاد ومصالحها..