كتَبَ خطابه الذي يطلب به العمل في إحدى المؤسسات الحكومية بيده، طال به الوقت وهو يكتب، كان مستغرقاً في الكتابة، شديد الاهتمام بها، مزق أكثر من ورقة حرصاً منه على جودة الكتابة، تنفَّس الصُّعداء بعد أن انتهى من تسيطر كتابه بقلمه، وضع خطابه في مَلَفِّ التقديم، وانطلق إلى تلك المؤسسة، قدَّم ملفَّه بما فيه من أوراق، كان خطابه في مقدِّمة أوراقه، تسلَّم المسؤول عن التوظيف أوراقه، وتناول الخطاب بيده، وأطال النظر فيه، وضع نظارته على عينيه حيناً، ورفعها حيناً آخر، والشاب يتأمَّل حال مسؤول التوظيف، يتساءل في نفسه: أتراه أعجب بخطِّي وأسلوبي إلى هذه الدرجة شعر بقدر كبير من الانشراح، ولكنَّه فوجئ بمسؤول التوظيف يقول له: أوراقك الرسمية واضحة، تقديرك الذي حصلت عليه في الجامعة (جيد جداً) وهو تقدير يؤهِّلك للقبول في الوظيفة التي تقدَّمْت إليها، ولكنِّي أسألك، وأرجو أن تصدقني: هل أنتَ الذي كتبت هذا الخطاب؟ انتفض الشاب قائلا: نعم، والله، ولقد كتبته بقلمي ويدي هذه، ولم أستعن في كتابته بأحد.
شعر المسؤول أنَّ الشابَّ جادٌ في إجابته، وأنَّه هو الذي خطَّ بقلمه هذه الكلمات المتشابكة، والحروف المتهالكة، وأنَّه هو الذي صاغ الخطاب بهذا الأسلوب الضعيف، فأحسَّ بوخز الألم في قلبه، مع قدْرٍ كبيرٍ من الإشفاق والعطف على هذا الشاب، واستغرق في حوارٍ داخلي مع نفسه: يا تُرى، كيف درس هذا الشاب وأمثاله، وكيف تجاوزوا مراحل التعليم الموجودة من الابتدائية إلى الجامعة؟ وأيُّ نظامٍ تعليمي سمح لهم بالانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى وهم بهذا المستوى التعليمي الضعيف؟ وكيف كان الأساتذة يقرؤون أوراق هذا الشابَّ وأضرابه من الطلاب؟ وكيف سمحوا لأنفسهم بتقديم هذه المستويات المتدنِّية من الطُلاب إلى المجتمع؟ كان أثر هذا الحوار الداخلي يظهر على ملامح وجه مسؤول التوظيف بجلاء، وكان الشابُّ مندهشاً لما يرى من انفعالات وجه المسؤول، خائفاً من آثارها في الموضوع الذي جاء من أجله، ولكنَّ المسؤول لم يمهل الشاب، ولم يسمح لذلك الحوار النفسي أن يستولي عليه، بل أخذ ورقة بيضاء وقدَّمها إلى الشاب قائلا: هل يمكن أن تعيد كتابة خطابك الآن؟
قال الشاب: نعم، وأخذ الورقة وبدأ يكتب ببطءٍ شديد، وعناءٍ شديد، ومسؤول التوظيف يقرأ ملامح وجهه، وينظر إلى طريقة كتابته المضطربة الواهنة، توقَّف الشاب عن الكتابة وقال في خجل: هل يمكن أن تعطيني ورقة أخرى؟ قال له: أعطني الورقة لأرى ما كتبت، فأعطاه الورقة بيدٍ مرتجفة فرأى فيها سطرين لا يكادان يحملان معنى، أو يقدِّمان موضوعاً.
أدرك مسؤول التوظيف أنَّه أمام معضلةٍ تعليمية كبيرة، وأنَّ هذا الشاب ينضمُّ إلى عشرات الشباب الذين تقدموا إلى المؤسسة، ولم يقبلوا بسبب الضعف الشديد في لغتهم، وكتابتهم، وعدم قدرتهم على التركيز، وتساءل: ما ذَنْب هؤلاء الشباب، وكيف وصلوا إلى هذا المستوى من الضعف؟
ثم فكَّر - وقد بلغ به الإشفاق على هذا الشاب وأمثاله مبلغاً عظيماً- أن يقترح على مؤسسته القيام بدورٍ إيجابي مع هذا النوع من الشباب -وهم كُثر- بأن يقبلوهم، ويمنحوهم دوراتٍ لتقوية أساليب تفكيرهم، وكتابتهم، وإملائهم، وتأهيلهم للقيام بمسؤولية الوظيفة التي تُسْندُ إليهم.
قال للشاب: نحن سنقبلك في الوظيفة التي تقدَّمْتَ لها، ولكن بشرط. قال الشاب فرحاً: أنا مستعد لقبول ما تضعون من الشروط، فالمهم عندي أنْ أحصل على الوظيفة بعد أن أمضيت ثلاث سنوات باحثاً عنها.
زادت شفقة المسؤول على هذا الشاب، وعزم على بذْلِ جهدٍ كبير في إقناع مؤسسته للقيام بدور فعَّال في رفع مستوى من يتقدَّم إليها من أصحاب الأقلام الواهنة.
إشارة :
التعليم ليس مظاهر تَبْهر، ولكنَّه قدراتٌ بشرية تَظْهَر.