الأحداث التي عصفت ببعض الدول العربية مثل تونس أو مصر، أحداث هامة مصيرية لا يمكن إغفالها، والقاسم المشترك بينها هو مطالبتها بإزاحة السلط الحاكمة والقطيعة الكاملة معها، لكن من المبكر جداً أن نعرف ما يمكن أن تؤول الأمور إليه
فمخاض الولادة أطول وأصعب من نزعات الموت. والبناء عملية أكثر تعقيداً من عملية الهدم. ولا شك أن الدول العربية ستكون محل اهتمام خاص من جميع المراقبين في العالم لتشابه الوضع بين الدول من التركيز على الحكومات وإهمال الشعوب لإيمان بعض الدول الكبرى بقدرة الأنظمة العربية على ضبط شعوبها. وقد جسد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ذلك عندما قال: في العالم العربي (على عكس إسرائيل) تتخذ القرارت بسهولة لأن من يتخذها فرد واحد لا يحتاج الرجوع لأحد. وما حصل في تونس مصر يدل على فشل الإصلاحات الجمالية للأنظمة مثل ديمقراطية الانتخابات المزيفة أو مجالس التمثيل الشكلية.
وفي السبعينات من القرن السابق ركز عالم النفس الاجتماعي هيربرت ماركوزا في الكثير من كتاباته على تعرية حالات الاحتقانات الاجتماعية التي ألمت بمعاقل المجتمع الرأسمالي آنذاك حيث أرجعها في مجملها إلى نجاح الرأسمالية، نتيجة لتطور وسائل الاتصال، في خداع المجتمعات وتخديرها بتعميق رغبة الاستهلاك فيها وغريزة الاستحواذ الدفينة لدي أفرادها، بحيث أصبح الفرد الرأسمالي يعيش ويعمل ويكد من أجل أن يستهلك ويستهلك. والفرد هنا يفيد الرأسمالية في الاتجاهين؛ عندما يكد لينتج لها، وعندما يبادر بأن يستهلك منها. والإنسان الغربي الحديث، حسب ماركوزا، أصبح إنسان تتحكم بمصيره، وتسيطر عليه «العقلانية التقنية» التي أصبحت تدريجياً سجنا ذا بعد واحد له حتى أنه عرف الفرد الرأسمالي بأنه إنسان ذو بعد واحد، بحيث اختفت من حياته أو تم إقصاء معظم الأبعاد الأخرى، كالأبعاد الإنسانية والروحية. ويؤيد ماركوزا آخرون أيضاً في القول بأن المجتمعات الحديثة تتحكم فيها دائرة من المنافسة الاقتصادية الشرسة التي لا فكاك منها، بحيث أصبحت هذه المجتمعات حبيسة هذه المنافسة المحتدمة التي أسهمت في إقصاء الإنسانية وتدمير البيئة والأرض، وتناقص الموارد الطبيعية بشكل مخيف.
انتصرت الرأسمالية بشكل غير مسبوق بسقوط النظام الاشتراكي حتى أنها ادعت توحيد العالم تحت مظلتها، فأصبح العالم وحدة واحدة تحكمه الدول المتسلطة الغنية. ويرى البعض أن ما يسمى اليوم بالعولمة ليس إلا اسما جميلا لمظاهر تحكم القيم الرأسمالية الاستهلاكية بمصائر البشر بما في ذلك جمع المستضعفين في الأرض في العالم الثالث. فالعولمة التجارية لم تغير من وضع الشعوب الفقيرة المستضعفة شيئاً بالرغم من أن هذه الدول فتحت أسواقها، ونفذت جميع مطالب البنك الدولي، وطوعت قوانينها وتشريعاتها لجلب الاستثمارات الأجنبية الموعودة، فما حصل هو أن هذه الدول ازدادت فقراً وبطالة، فبدت العولمة نوع من السراب في صحراء الرأسمالية الذي يحسبه المستضعفون الظمآنون ماء.
المجتمعات في العالم الثالث، أو ما يسمى بمجتمعات الجنوب، تحاول منذ زمن بعيد تكييف نفسها مع العالم الذي يسيطر عليه الشمال ببعده التقني العقلاني الواحد الذي يحاول عولمته جنوباً. فالشمال ينظر للجنوب من زاويتين فقط. الأولى كونه مصدراً للمواد الأولية، والثاني كونه سوقا استهلاكية للشركات متعددة الجنسية، فدول الشمال تنظر للجنوب على أنه مصدر للأيدي العاملة الرخيصة، وهي مادة خامة أولية رخيصة في حساب عالم الأرباح. وأصبح الفرد الجنوبي، الذي يكد مقابل أجور زهيدة، يستهلك البضائع الرخيصة التي ينتجها هو نفسه بأغلى الأثمان بعد أن تتم عملية إعادة تصديرها له. ورب العمل في الحالتين هو شركات شمالية معولمة.
ولكن حركة العولمة هذه اصطدمت بعقبات مجتمعات الجنوب غير المتطورة وغير العصرية التي تحكمها أنماط اجتماعية تقليدية: القبلية، والمذهبية، والطائفية، والفئوية، والعائلية، وتتفشى فيها الأمية وقلة الجهوزية التدريبية. ولذلك كان لا بد من خلق شراكة مع نخب في داخل هذه المجتمعات تذلل مثل هذه العقبات وتكون ممثلاً لمصالح الشمال في الجنوب. نخب تنعم بكل شيء بدون أن تقدم أي شيء عدا عملية الوساطة البيروقراطية والتكنوقراطية بين الشركات العالمية والسلط (جمع سلطة) المحلية. وهذا هو تفسير ظهور بعض مظاهر التطور الاقتصادي في تونس ومصر لم تطل إلا فئات قليلة من المجتمع. وظهور طبقات من التكنوقراط، ورجال الأعمال والمستثمرين والممولين. وأفرزت المنافسات الحادة بعض الممارسات الاقتصادية غير السوية التي تأخذ طابع الفساد المتعارف عليه.
وتدريجياً أصبح للسلط نفسها مصالح في علاقتها مع المستثمرين القادمين من الشمال، سواء للاستفادة من بيع المواد الأولية، أو الأيدي العاملة الرخيصة، ولذلك فهي تلجأ للقوة للسيطرة على هذه المجتمعات غير المتجانسة وتطويعها لتلائم وتوائم أنماط الإنتاج الشمالية التي تطورت عبر مئات السنين مع أحوال تقليدية متأخرة تحت وعود مستقبلية بتحسن أحوال الاقتصاد والتعليم. وهي الوعود التي لم تتحقق بالشكل الذي حلم به الجميع وأسهمت أزمات الرأسمالية ذاته في زيادة الأدواء الاجتماعية في هذه الدول وعلى رأسها البطالة والتطرف.
ولذلك تحاول السلط في المجتمعات الجنوبية السيطرة على الأنماط الاجتماعية السائدة تحت سلطة واحدة ولا تسمح عادة بتعايش المصالح، غير أنها في الوقت نفسه تحاول أن تظهر بالمظهر العولمي الذي يحتم الانفتاح والشفافية وبعض المظاهر الليبرالية والديمقراطية التي تطالب بها الدول الشمالية. ولذلك فهي تعيش دائماً هاجس الخوف من أن تسمح لقوى جديدة بالتطور بحيث يخرج ذلك من دائرة سيطرتها ويفقدها مركزها، وعادة ما تكون القوى الجديدة مرتبطة بطبقات الرأسماليين المرتبطين بالشمال الذين يستندون في قوتهم على المال وعلاقتهم بالشمال. كما أنها تصطدم مع القوى التقليدية (التجمعات الدينية) في المجتمع التي يهدد التطور الاجتماعي مصادر قوتها ونفوذها. ومن أجل ذلك وغيره لا تستطيع هذه الدول الانفكاك من الهاجس الأمني، سواء كانت هذه الدول أحزاب أو سلط تقليدية. فالتطور في مجتمعات الجنوب يتم تحت رقابة أمنية صارمة. ويأخذ الأمن المكان الأول في جميع الحسابات التنموية.
وهنا يمكن القول بأن إنسان الجنوب، إنسان العالم الثالث، هو أيضاً إنسان ذو بعد واحد، وهذا البعد هو البعد الأمني. فكل شيء يفسر أمنياً، ومعظم الأمور يتم التعامل معها أو القبول بها فقط بعد أن يتأكد من كونها آمنة أمنياً. ولذلك فلا يستغرب أن المراكز الإدارية والوظيفية في الجنوب لا تحكمها الكفاءة بل الولاء. وربما يكون تحكم البعد الأمني هو الحائل الأول دون تطور هذه المجتمعات لمجتمعات مؤسسية، كما أن الهاجس الأمني، الذي قد يكون غير مبرر في معظم الأحوال، يشل قدرة هذه المجتمعات على التغير وأخذ زمام المبادرة. بل إن القوى التقليدية والمحافظة دائماً ما تبرر إعاقتها لتطور هذه المجتمعات بدواعي الحفاظ على التقاليد المتخلفة من أجل الحفاظ على أمن المجتمع من الفساد المحتمل نتيجة التطور.
و الأخطر من ذلك هو أن تقع هذه المجتمعات في مفارقة الخطر الأمني، أي أنها تعيش تحت أوهام أمنية غير موجودة وربما تكون غير مبررة. ولعل ذلك هو السبب في تفشي البيروقراطية، والمحسوبية، والفساد الإداري، وإهدار الموارد وغير ذلك. فالاعتماد على الولاء فقط دون الكفاءة يأتي بأناس غير أكفاء في مراكز حساسة يبقون في هذه المراكز مدداً طويلة، وهم يتمسكون بهذه المراكز ويقايضون ولاءهم بالاستفادة الشخصية والعائلية قدر الإمكان من مراكزهم، ولعل ما حدث في تونس ومصر هو محصلة طبيعية لاختناق هذه الدول بحبل بعد السيطرة الأمنية ذات البعد الواحد على هذه المجتمعات.