أحياناً يشعر الكاتب أياً كان مستواه ومهما كانت قدراته بأنه عاجز عن الكتابة إزاء حادث عايشه وسربله من أخمص قدميه حتى مفرق رأسه، مثله في ذلك المتحدث المفكر، فهو في لحظة ما، لا يستطيع أن ينطق ببنت شفة ويعترف بعجزه وقلة حيلته إزاء ما صار، ولو اُضطر للحديث فإنك لن تجد فيما يقوله من جديد يضاف إلى ما تراه عبر شاشات التلفاز، وكذا المحلل الخبير يبصم بالعشر أنه لا يفهم ما يدور ولا يقدر أن يتنبأ بما سيكون، وقس على ذلك السياسي البارع والاقتصادي المخضرم والعسكري القائد،... هؤلاء جميعاً بلا استثناء يقفون عاجزين عن معرفة ما هو حادث بالضبط، وإلى أين ستؤول الأحوال، ومتى ستكون النهاية، كل هذا من شدة هول الأمر وعدم القدرة على استيعابه فهو حدث غير مألوف في قاموسنا نحن العرب ولكنه جزماً لم ولن يكون معزولاً عن سياقه الذي ولد فيه إذ هو في حقيقة الأمر نتيجة لسلسلة من التراكمات والأحداث ولدت الاحتقان والضغوط حتى جاءت لحظة الانفجار التي تعتبر كالصاعقة على متخذ القرار وكالماء البارد في حس الجماهير المغلوب على أمرها التي تبحث عن الفرج بأي ثمن ومهما كان حجم التضحيات!!، هذا تماماً ما حدث في تونس ومن بعدها بأيام في مصر وقريب منه ما يحدث في السودان ولبنان، والخوف أن السيناريو قد يتكرر في دول عربية أخرى كاليمن والأردن و... وبعيداً عن لغة الحرف والوصف في القول فإن الصور التي نقلت وما زالت تنقل لنا صباح مساء جزء من هذه الأحداث التاريخية المفصلية والخطيرة تبرهن على أن أمتنا العربية تدخل منعطفاً تاريخياً جديداً يختلف - في نظري- عمّا سبق من حقب زمنية لها ظروفها وفيها إنجازاتها وإخفاقاتها التي أصبحت مجرد معطيات وإرهاصات توظف ويستفاد منها في القادم من الأيام وقد تنسف بالكلية خاصة في جوانبها التنظيمية والإدارية.
إن لغة الجماهير في إطارها العام ليست لغة العقل إذ ربما حركت الصور والمشاهد المؤذية المشاعر الخامدة لدى الرجل اللبيب وربما هزت الوجدان المتقد عند الصغير والكبير وكانت ردة الفعل عنيفة على المستوى الشعبي فصار المحرك للسلوك الإنساني الثائر، العاطفة لا العقل، وحين ينخرط الواحد منا في حزمة الجماهير يلغي مداركه ويهتف بما يعتقده المجموع بأنه الحق حتى ولو كان هذا الأمر محل شك عند «س» من الناس فضلاً عن أن يكون مرفوضاً بالكلية لدى البعض من هؤلاء الأفراد الذين تشكل منهم هذا الجمهور الهاتف برحيل الرئيس، الرافض للواقع، السائر في الشوارع، والمتجمع وسط الميادين والساحات، نعم قد يستهجن العقلاء السلوك الاستفزازي وما يعقبه من سلب ونهب وإفساد في الممتلكات العامة والخاصة، خاصة حين يركنون إلى ذواتهم ويفكرون في عواقب الأمور، ولكن كما قال الشاعر العربي:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ومع قناعتي بأن جمهور اليوم ليس هو من كان فيما مضى أيام جمال عبدالناصر أو حتى أنور السادات أو الرئيس أبو رقيبة أو غيرهم إلا أنني لست متفائلاً بعقلانية هذه الثورات الشعبية في بلادنا العربية وأخشى أن تعود الشعارات من جديد وتضيع التركة بين غالٍ وجاحد ومتشفٍ ومستفيد، خاصة أننا جميعاً نعلم غياب المشاريع الإصلاحية الوطنية المدروسة والناضجة بصورة ملائمة زماناً ومكاناً وإنساناً في عالمنا العربي.
إن نهج الهدم مهما كان حجم التحديات وكثرة المعوقات سهل وسريع ولكن لغة البناء والنهوض ليست مفهومة لدى الجميع ويصعب فك رموزها وإجادة حرفها لدى الشارع العربي وللأسف الشديد، والفوضى الخلاقة مثل حد السيف قد تقتل في لحظة غفلة أو تهور وربما تكون طريق النصر وسبيل الظفر بالفردوس المفقود والمجد المسلوب، ولكن الشرط الأساس لهذا الأمل أن تكون اليد التي تحركه يداً أمينة وحانية وفي ذات الوقت شديدة وعصية على الكسر، وأن تجتمع أصابع اليد الواحدة من أجل أن تمسك بزمام الأمور حتى لا يفلت الزمام عن مساره الصحيح فيصير ضرب السيف بلا هدف ودون تحديد وجهة واتجاهاً، والذي لا شك فيه أنه متى ما وضح الأمر واستبان الطريق وصدقت النوايا وكانت المرجعية محسومة والشرعية محل اتفاق من الكل واستشعر الجميع أن كل منهم على ثغرة وكان الهدف في النهاية المصلحة العامة وتحقق الحرية واقعاً لا مجرد شعار متى ما كان ذلك فإن لنا غداً مشرقاً في أوطاننا العربية الحبيبة بإذن الله وليس ذلك على الله بعزيز وإلى لقاء والسلام..