حقيقة لا أعرف ماذا أكتب، نسيت فعلاً كيف تتشابك الكلمات لتكون جملا فسطورا فمقالا، وإذا بدأت أستعيد شيئاً من قدرتي على الكتابة، فماذا أكتب؟! فألمي أكبر من كل الكلمات التي أعرفها ولا أعرفها، كيف أنسى أو أتناسى ما يحدث وأحاول عبثاً كتابة موضوع آخر! فالحدث أقوى حضوراً من النسيان، والألم أكثر وجعاً من قدرة تحمل الإنسان، ما يحدث في جدة وما حدث لا يستطيع أي كاتب أن يجسده مهما كانت قدراته الكتابية! حالة من الذهول والصدمة تطغى على الموقف، الألم والوجع والشعور بالخذلان هو ما نشعر به.
ما حدث العام الماضي يحدث اليوم ولكن بدمار أعظم، وخيبة لم تعد تتحملها قلوبنا، بعد عام من الأزمة منينا النفس بالآمال وقلنا لعل في ذلك خيرا، ظننا أنها تلك الضارة النافعة التي نسمع عنها، ظننا «وبعض الظن إثم»، فكل ظنوننا خابت وكل أمانينا ضاعت في سيول الألم.
مخطئ من يعتقد أن مشكلة جدة مع السيول والأمطار التي بدأت العام الماضي وامتدت هذا العام، فهي ليست مشكلة وليدة اليوم واللحظة، بل أزمة فساد تمتد لعشرات السنين.. وإن هذا المطر يجاري سخونة وتيرة أحداث هذا العام فأتى بقوة وبشكل درامي مفاجئ.
في الحقيقة لا أنوي أن أهاجم المسؤولين والمفسدين وأصحاب الجيوب الممتلئة بالمال الحرام، ولا أريد أن أعرف من هم وكيف حدث ذلك ولا أعتقد أن سكان جدة وكل الشعب السعودي متلهف لمعرفتهم بقدر رغبته بإيجاد حل وإيجاد (بلاعة) فهو اليوم يعيش مأساة أكبر فضربتين بالراس توجع! رغبته الحقيقة العميقة هي معرفة ماذا فعلت تلك اللجنة الطارئة التي شُكلت لامتصاص غضب الشارع؟! وماذا قدمت (الأمانة) لإصلاح الوضع؟؟ ماذا حدث خلال عام؟!
لماذا لم يخرج الأمين العام أو أحد موظفي الأمانة البالغ عددهم 8 آلاف إلى الإعلام والناس يطمئنوهم ويخبروهم ماذا فعلوا ليمنعوا تكرار الحادثة؟؟ لم تعد تطربنا وتطمئننا مقولة (لا وفيات ولله الحمد)، ولم تعد يهدئ الشارع تلك الوعود التي تصرف بسخاء! فالرعب والهلع من الذي يعيشونه يجب أن يتعامل معه بشيء من الجدية والمسؤولية والاحترام..
فهم عاشوا ومازالوا يعيشون مأساة من العيار الثقيل، فمنهم من فقد منزله ومنهم من فقد محله ومصدر رزقه، ومن هم من فقد حياته بأكملها.
خادم الحرمين الشريفين الملك الرقيق الشجاع الإنسان الذي ذرف الدمعة أمام الملايين حين التقى أهالي الشهداء، أجزم أنه بكى كثيراً أمام هذا الكارثة وهزه جلل الحدث، فهو الذي توعد هذه المرة بمحاسبة المقصرين ومعاقبتهم أشد العقاب على هذه الجريمة التي راح ضحيتها المئات من الأرواح، ودمرت بسببها البيوت والممتلكات والثقة.
الجانب المضيء في الحدث الكارثي تلك المبادرات الشبابية والروح المتعاونة والنخوة والشهامة التي يتميز بها شباب وبنات جدة، فهم الذين مسحوا الدموع عن وجوههم، وداسوا بشجاعة على آلامهم، وشمروا عن أكمامهم محاولين رسم ابتسامة وانتزاع أكبر كمية ضوء من فم الظلام فكانوا قدوة رائعة وبصمة بيضاء مضيئة في صفحة ذلك الأربعاء الأسود في نسخته الثانية.
الحقيقة هي أن جدة التي أصبحت تنتفض رعباً أمام قطرة مطر، وتغرق في شبر ماء، بحاجة إلى مهندسين أكثر من حاجتها إلى الكتّاب، بحاجة إلى معدات تعيد بناءها أكثر من مقالات تعزف على آلامها، بحاجة إلى مخطط ومواد بناء، أكثر من حاجتها إلى قلم وورقة بتوقيع ناقد وساخر، مع أن الصحافة لعبت دوراً أساسياً في تقديم غضب الشارع السعودي العام الماضي من مأساة جدة بشكل جريء ومستوى متقدم ومثير للاهتمام بالشفافية وارتفاع أسقف الطرح والنقاش، ولا أتمنى أن يكون ذلك ربيعاً خاطفاً للصحافة والإعلام السعودي أبداً ولكن على الرغم من قسوة النقد وحدته، ووصول تيرمومتر الغضب إلى أعلى مستوياته إلى أنه مع الأسف الشديد لم يستطِع أن يقلم أنياب الفساد على الرغم من أنه لامسها.