قال أبوعبدالرحمن: الإسلام يُرحِّب بكل أسلوب - وإن كان جديد الوقوع - يحقق دستور الأمة بحرية وعدالة ومساواة ووسائل بشرية مساعِدة تعين على دقة التنظيم وسرعة الإنجاز؛ ذلك أن أحكام الشرع من الثوابت، وهي تُكتشف بالنص غير المحتمل، أو القضية غير المحتملة (يسميها أهل الظاهر دليلاً)، وبصواب الاجتهاد.. وأما بإصابة المجتهد المُراد إذا كان الاجتهاد غير صواب فلا وزن له في المعرفة؛ لأن الإصابة مصادفة لم يتحقَّق بها إظهار السبيل إلى معرفة المُراد، كما أن صواب الاجتهاد وتخلُّف إصابة المراد يحقق أجراً ومعذرة ولا يُحقِّق معرفة.
وتظل الأحكام ثوابت وإن تغيرت الفتوى بتغير الزمان؛ لأن التغيُّر تغيُّرٌ في الوقائع، وإحلال لثوابت الأحكام محلها من الوقائع التي تناسبها لتغير المكان والزمان.. وأحكام الشرع التي جعلها الله لنا باجتهادنا ليست من الثوابت بغضِّ النظر عن تغيُّر اجتهاد العلماء في زمن دون زمن، أو بلد دون بلد؛ وإنما الثبات لصواب الاجتهاد؛ ووجه الثبات أن اجتهادنا محكوم باختيار الله لنا في اتخاذ وسيلة الاجتهاد، وهو أن يكون مصدر اجتهادنا شرع الله قرآناً وسنة؛ لأنه أذن لنا بالاجتهاد لنتحرى مراد الله دون مراد غيره، وأن يكون مجتهدونا من ذوي الأهلية والدراية بالشرع؛ لأنه لا يُرشَّح لمعرفة مراد الله في جزئية من الجزئيات إلا من تمرس في فهم خطابه.. وأن يكون تأصيلنا - في استقاء الحكم من مصدره - نزيهاً صادقاً بريئاً من الهوى والعصبية؛ فالإخلاص لله في الاجتهاد شرط ضروري؛ لأن الاجتهاد عبادة؛ فإذا تحقق الاجتهاد بصحة المصدر، وأهلية المجتهد، ونزاهته: أصبح الحكم من الثوابت في حق المجتهدين ومن تلزمهم الطاعة من غير ذوي الاختصاص ما ظل هذا الاجتهاد غير منقوض باجتهاد أصحَّ عند أهل عصر أو مصر.. وأما إصابة المراد نفسه فيُعرِّفهم بها من عرَّف لهم الجنة، ويمنحهم أجرين، أو أجراً ومعذرة.. فإذا استقر اجتهاد المسلمين ثم استجدت معرفة حسية قطعية تعارضه: بات من اليقين أن الخطأ في أفهام مجتهدينا لا في شرع ربنا، ومن ثم يعاود الاجتهاد أهلوه؛ فبربكم هل رأيتم أكرم وأرحم وأسمح من هذا الدين المطهَّر ؟!.. وأما أسلوب تطبيق الحكم الشرعي - بعد معرفته نصاً أو اجتهاداً -: فمنه ما هو من الثوابت، وأكثر ما يكون ذلك في العبادات، فلا نعبد الله بأي كيفية لم تشرع لنا، وهذا هو المِحكُّ في معرفة السنة والبدعة.. ومنه ما ليس من الثوابت، وأكثر ما يكون ذلك في غير العبادات، وأوسع أبواب الفقه قبولاً للأساليب المتطورة الأحكام السلطانية (ممارسة الحكم)، وأكثر المصالح المرسلة التي قررها الأصوليون استنباطاً صادرة من هذا الباب، وإذا استقرأت واقع السياسة في الشعوب المتقدمة مادياً وجدته يدور على سلطتين: أولاهما سلطة أهل النظرية الأيدلوجية (دكتاتورية الحزب)، وأخراهما سلطة الديموقراطية (الأيديولوجية نفسها)، وهي دكتاتورية الشهوات والمنافع التحليلية؛ وبهذا فمن المؤكد أنه لا حلم مطلقاً بدولة ليست سلطتها منبثقة من دين أو مذهب فكري أو تحليلي.. أي أنه قبل الاتفاق على نظرية سياسية لابد مِن أن يكون فيها مسبقاً الاتفاق على دين أو مذهب أو منفعة يكون من عناصر أي منهن بنود العقد بين الحاكم والمحكوم، والمدخل لكل نظرية بلا ريب منطق الحقيقة، وهو العقل وتفكيره؛ وإذن فلا وجود لحرية مطلقة، بل كل دعوة إلى الحرية فالحرية عند الداعي إليها مُـقَيَّدة ومحبوسة بإرادة دين أو مذهب أو جماعة أو منفعة جزئية.
قال أبوعبدالرحمن: وفي أجوبتي على الهاتف التي كانت تنشر بهذه الجريدة (جريدة الجزيرة) بعنوان مهاتفات للفكر والوجدان قال أحد المهاتفين: (ألا ترى أن في نقدك للديموقراطية بذلك العموم إسقاطاً لعناصر ديموقراطية مشروعة كعنصر الحزب؛ فإن التاريخ الإسلامي مليئ بالمذاهب الفقهية والفكرية، ولم تخرج بذلك عن الملة، والمذاهب أحزاب كما يعلمه فضيلتكم ؟!)، وأجبت بأن في التساؤل غفلة لثلاثة أمور:
أولها: أن نشوء الأحزاب في الأمة بقدر كوني لا بحكم شرعي.
وثانيها: أن التحزب للإسلام واجب في جماعة غير إسلامية، ولا يجوز التحزبات داخل الجماعة المسلمة؛ لأن القرآن الكريم ينهى عن التفرق.
وثالثها: أن المذاهب الفقهية والفكرية غير المذاهب السياسية بالمعنى الاصطلاحي، والتعصُّب تقليداً حزبية شديدة الحُرْمة في دين الله، والعامي يسأل أهل الذكر؛ فإن ترقَّت عن العامية مداركُه فلا يحلُّ له الالتزام بفتوى أهل مذهب معين، بل يستفتي الأعلم والأورع حسبما يُشاهده ويستفيض عنده من أقوال الناس.. وقد ورد ذكر الحزب والأحزاب في القرآن الكريم، وبيَّن الله أحكام كل حزب؛ ذلك أن القرآن الكريم في أكثر من موضع قسَّم الناس إلى حزب لله غالبين مفلحين، وإلى حزب للشيطان خاسرين من أصحاب السعير.. قال تعالى: ?فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? المائدة 56، وقال تعالى: ?أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? المجادلة 22، وقال تعالى: ?أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ? (المجادلة: 19)، وقال تعالى عن الشيطان: ?إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ? (فاطر: 6)؛ فالحكم في الحزب بالتقييد، فحزب الله ممدوح وحزب الشيطان مذموم.. وورد ذكر الأحزاب في القرآن الكريم ويراد بهم قوم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من سائر الأمم.. قال الله تعالى: ?أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ {9} أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ {10} جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ {11} كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ {12} وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ? {13}? (سورة ص: 9-13)، والمراد بكلمة الأحزاب كفار قريش والأمم الكافرة، والتقدير الإعرابي: (هم جند أيُّ جند هنالك ؟!)، وصفته أنه مهزوم، وأنه من الأحزاب.. وقال تعالى: ?كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ? (غافر: 5)، وقال سبحانه وتعالى قاصَّاً ما قاله مؤمن آل فرعون: ?وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ {30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ{31}? (غافر 30-31)، وقال تعالى عن قوم عيسى: ?وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {63} إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {64} فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ {65} (سورة الزخرف: 63-65)?، وقال تعالى عن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {36} فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ {37}?(سورة مريم: 36-37)، وقال تعالى: ?وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ? (هود: 17)، وقال تعالى: ?وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ? (الرعد: 36).. قيل: (المراد المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم)، وقيل: (المتحزبون من أهل الأديان كلها)، وأما كلمة الأحزاب في سورة الأحزاب فالمراد بها كفار العرب الذين حاصروا المدينة في حادثة الخندق، وورد الحزب بالتثنية في قوله تعالى: ?ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً? (الكهف: 12)، والمراد بالحزبين الكفار والمؤمنون، وورد لفظ الحزب بالإفراد على سبيل الذم لأنه تحزُّبٌ خارج دائرة الحق.. قال تعالى: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{53} فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ {54} (سورة المؤمنون: 52-54)، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32}? (سورة الروم: 31-32).. قال المفسرون: جعلوا دينهم مع اتحاده قِطعاً متفرقة مختلفة، وفسر بعضهم الفرح بالإعجاب، والواقع أن الفرح نتيجة الإعجاب، والإسلامُ يُتحزَّب له من قِبل المسلمين في مجتمعات غير إسلامية؛ فإذا كان المجتمع إسلامياً، وحكومته إسلامية، ودستوره إسلامياً فلا يجوز التحزب؛ لأن ذلك التحزب اختلاف بين المسلمين أنفسهم، والله يحذِّر أشد الحذر من الاختلاف؛ ولهذا إذا استقرَّ الاجتهاد فيما يسع فيه الاجتهاد فلا يحل للعالم النحرير الانقسام بالفتوى العلنية، وإنما يعمل حسب اجتهاده في خاصة نفسه ورعيته ومَن استنصحه من داخلته إذا أخذ عليه العهد أن لا يستفتي غيره حتى يكون من أهل العلم؛ فيعمل بما أدَّى إليه اجتهاده.. وأما ما لا يسع فيه الاجتهاد كحق الله سبحانه في صفاته فليصدع بالحق، وليصبر على الأذى.. وعن معنى الحزب قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى: «الحاء والزاء (الزاي أفضل) والباء أصل واحد، وهو تجمُّع الشيئ»، وقيَّده الراغب بجماعة فيها غلظ، وقال الأزهري نقلاً عن الليث رحمهم الله تعالى: «وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضاً بمنزلة عاد وثمود وفرعون».
قال أبوعبدالرحمن: بل لأن السبل تفرقت بهم عن سبيله؛ فكانوا جماعات يؤلف بينها معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتحزب ضدهم، فكانوا أحزاباً؛ فكان الحزب لغة بمعنى التفرق والتجمهر لخلاف ما لا يجوز الاختلاف عليه بضرورة دين أو فكر.. والحزب في الاصطلاح السياسي يعني مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وأيديولوجية مشتركة، وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى الحكم.. وعُرِّف الحزب بأنه جماعة منظمة ذات عضوية مفتوحة للجميع تهتمُّ بالشؤون السياسية، وعُرِّف بأنه جمهرة من المواطنين تجمعهم مبادئ مشتركة وأهداف واحدة يعملون على تحقيقها عن طريق الاستيلاء على الحكم بالأساليب الديموقراطية عبر الانتخابات النيابية حيناً، وبالأساليب غير الديموقراطية كالثورة أو الانقلابات العسكرية حيناً.. وعُرِّف أيضاً بأنه منظمة سياسية من الناخبين ورجال السياسة يعملون مجتمعين وفي خطة معينة بُغية الوصول إلى الحكم وتوجيه سياسة الدولة وإدارتها، وذهب محمد عبدالحكم دياب إلى تعريف الحزب السياسي بالمفهوم العام بأنه عبارة عن جماعة من الناس تعتنق مذهباً سياسياً واحداً وتلتقي على أهداف ومصالح مشتركة، ويرى أنه في العصر الحديث يُعَبِّرُ عن أُطُر جديدة لظاهرة الاختلاف والانقسام العقائدي والسياسي، وقال مؤلِّفا الحرية وتعدد الأحزاب: «وقد تعدَّدت تعريفات الحزب السياسي، فركَّز الفكري الليبرالي على تجاهل الجانب العقائدي منذ أن لاحظ الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم في مقال له عام 1760 أن البرنامج السياسي للحزب يلعب دوراً جوهرياً في مرحلة تأسيسه؛ إذ يعمل على تحقيق التآلف بين أفراد متفرقين حتى تبرز الاعتبارات التنظيمية بعد ذلك.. كما عرف الفرنسي بنيامين كونستانت الحزب في 1816م بأنه جماعة من الناس تعتنق مذهباً سياسياً واحداً.. ومن التعريفات الواسعة الاستعمال في هذا الإطار تعريف أدموند بيرك الحزبَ بأنه اتحاد بين مجموعة من الأفراد بغرض العمل معاً لتحقيق الصالح القومي وفقاً لمبادئ محددة توافقوا عليها جميعاً.. وفي المقابل أبرز الفكر الاشتراكي والماركسي بوجه خاص مفهوم الحزب الطبقي حيث أصبح التركيز على التكوين الاجتماعي للحزب، والارتباطات الاقتصادية لأعضائه، والمراتب التي يحتلُّونها في السلَّم الاجتماعي.. ومن التعريفات التي جمعت كلا الاتجاهين تعريف موريس ديفرجيه في مؤلفه عن الأحزاب السياسية؛ فقد رأى أن الحزب هو جماعة من الناس منظمة في بناء معين ملتزمة بأفكار وعقيدة وبرنامج سياسي محدد، وتنتمي بشكل عام إلى طبقة بعينها: إما انتماءً اقتصادياً اجتماعياً مباشراً، وإما انتماء فكرياً غير مباشر.. ويرى بعضهم أنه لا يمكن إعطاء تعريف واحد شامل للحزب مثل الفقيه القانوني بيردو الذي يرى أنه يجب أن نعرِّف الحزب في زمان ومكان معين.. بمعنى أن تعريف الحزب أمر يختلف باختلاف المكان والزمان، ومع ذلك يمكن القول بأن الدراسات المتعلقة بمفهوم الحزب تشير عادة إلى ثلاثة مقومات أساسية:
1- وجود تنظيم له صفة العمومية والدوام ما ظلَّ الحزب قائماً؛ بمعنى أنه يوجد على المستوى القومي والمحلي مع توافر شبكة للاتصالات بين مختلف مستويات التنظيم.
2- رغبة عناصر الحزب وقياداته الوصولَ إلى السلطة السياسية والحكم، وليس مجرد التأثير على صنع القرار السياسي.
3- سعي التنظيم إلى الحصول على التأييد الشعبي، وإقناع المواطنين بخطه السياسي بناءً على برامج وأولويات محددة.
ومما مضى نرى أن العنصر الثابت في تعريف الحزب هو كونُه يسعى للوصول إلى الحكم والاستيلاء على السلطة السياسية لتنفيذ برنامجه، وليس مجرد التأثير أو الضغط، وهذا هو الفارق الأساس (1) بين الحزب السياسي وجماعة المصالح؛ فالخاصية المميزة للحزب دون غيره من الجماعات هي العمل على تولي زمام السلطة من أجل تنفيذ مبادئ سياسية معينة، وبهذا المعنى يكون الحزب أداة للوصول إلى الحكم أو الاحتفاظ به بناء على برنامج سياسي؛ ولكي يتمكن من ذلك فلابد له من شكل من أشكال التنظيم؛ لأن التنظيم هو وسيلة لتحقيق أهداف معينة في داخل النظام السياسي، وبوجهٍ عام يُعَدُّ وجود التنظيمات الحزبية من خصائص النظم السياسية الحديثة سواء اتخذت شكل الحزب الواحد أو تعدد الأحزاب، وتُعَدُّ قضية العلاقة بين شكل النظام الحزبي وبين الديموقراطية من القضايا التي تحتل مكانة رئيسية في معارك هذا العصر السياسية والعقائدية.
وعن مسألة تعدُّدِ الأحزاب قيل: «وتعتبر قلة عدد الأحزاب دليلاً على الاستقرار الفكري والاجتماعي، واتفاق الجمهور على الخطوط الرئيسة للسياسة العامة.. بينما يعبر تعددها عن القلق والاختلاف حول تلك الخطوط، كما يؤدي هذا التعدد عادة إلى قيام الحكومات الائتلافية لتعذُّر حصول حزب واحد على أغلبية أصوات الناخبين، وهي عادة حكومات ضعيفة عديمة الاستقرار».
قال أبوعبدالرحمن: وبهذا تكون الأحزاب ظاهرة مرض، ولقد حاضَر الدكتور محمد سليم العوا عن التعددية السياسية من منظور إسلامي بزعمه في ندوة قضايا المستقبل الإسلامي بالجزائر في 9-12/10/1410هـ، فقرر في تمهيده أن التعددية تعني التسليم بالاختلاف واقعاً، والتسليم به شريعة؛ بمعنى أنه لا يملك أحد حرمان المختلفين من الاختلاف!!.. قال: والتعددية بمعنى الاختلاف في أنواع الخلق، وبين أفراد كل نوع من حقائق الإبداع الرباني المسلَّمة، وليقرأ من شاء قوله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ {98} وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {99}? (سورة الأنعام: 98-99)، وقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {28}? (سورة فاطر: 27-28).. والتعددية في نوع الإنسان وانتمائه ومستوى أدائه لواجباته وممارسته أجلى وأوضح، وليقرأ من أراد قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين? (سورة الروم: 22)، أو قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? (سورة الحجرات: 13).. وفي هذه الآية يعبر (الأسلم: يقص) القرآن بلفظي (الأسلم: بكلمتَي) أكرم وأتقى وهما يدلان لغة على وجود التقى والكرم.. أي يدلان على أن الاختلاف حقيقة واقعية، وأن التعدد في مراتب التقدير الرباني لا يعني قبول أهل مرتبة واحدة منها دون أهل سائر المراتب.. أعني مراتب التقى والكرامة المترتبة على صدق الإيمان ووضوح اليقين».
قال أبوعبدالرحمن: لا يحل لمسلم عالم أن يُدلِّس على أُمَّته بادِّعاء وِحْدة الحكم في وقائع مذكورة في النص ووقائع ليست في النص نفسه، بل لها أحكام مغايرة في نصوص أخرى أسقطها مُدَّعي العلم عمداً؛ فكان هذا تدليساً قد يلقى الله به خارجاً عن الملة.. وقبل أن أُبيِّن هذا التدليس أذكر بأنه يلاحظ من عناصر تعريف الحزب السياسي التنظيم للوصول إلى الحكم، والإسلام يمنع من هذا العنصر؛ لأن أهلية الحاكم تحمُّلاً أو أداءً معالجة بأفق أرحب في النصوص الشرعية، وليس مذهب أولى بالأهلية دون مذهب، وليس في الإسلام إنهاء لمدة الحكم بتحديد زمني، وإنما يُنتقَل إلى الأمثل بموانع معلومة من ردَّة أو عجز.. ومن عناصر التعريف عند جمهور ذوي التقنين السياسي أنه تحزُّب من أجل العمل السياسي، وليس في الإسلام إتاحة الفرصة لتعدد الأهواء السياسية، بل العمل السياسي إما أن يكون امتثالاً لنص شرعي، وإما أن يكون إجراء مصالحَ مرسلة يشترك فيها اجتهاد ذوي الحل والعقد، وأما الأمور التي تعود إلى خبرة البشر كالنواحي الهندسية والفنية فتنفِّذه الأجهزة ذات التخصص، ويُستفتى فيها أهل الخبرة، وأما توظيف مجال الخبرات والتخصصات فيُستفتى فيه سواد الأمة دون حاجة إلى تحزبات عقائدية أو سياسية.. وأبحاث الدكتور العوا مشحونة بمغالطات وبتدليس، وأهمُّ ما في ذلك أنه يخلط بين قضاء الله الكوني الذي لا مردَّ له وبين فعل البشر الذي لا يكون إلا بإذن شرعي رباني.. واختلاف وسائل الأداء في الصنع الرباني كاختلاف الألسن لا يسوِّغ اختلاف السلوك البشري في الغايات المحدَّدة شرعاً.. واسترسال الدكتور المتسامح أنتج نتيجة باطلة، وهي أن الكرم والتقى موجودان بإطلاق على الرغم من اختلاف الناس شعوباً وقبائل، وليس هذا بصحيح، وإنما المفهوم واقعاً والمفهوم بمنطوق الآية نفسها أن الناس مختلفون في الأنساب كما أنهم مختلفون في التقوى، فالنتيجة أن أكرمهم أتقاهم، فالميزان بالتقوى لا بالنسب، وليس كل فرد من البشر فيه تقوى، بل فيهم اللئيم الكافر.
ومن مبادئ النظرية السياسية ممثلةً في الديموقراطية الحرية، والذين أرادوا تعريف الحرية على طريقة الحد الأرسطي غفلوا عن المعادلة التي تجعل الحرية حقاً مرة، وباطلاً مرة.. قال برونيسلاف مالينوفسكي أحد علماء الاجتماع: الحرية هي الأحوال الاجتماعية التي تتيح للإنسان أن يحدِّد غاياته بالفكر، وأن يحفظها بالفعل، وأن ينال حصيلة تحقيقها.. وقال لاسكي الفيلسوف الإنجليزي: الحرية هي الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تقيِّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته.. وقال الفوضويون والوجوديون: الحرية هي انعدام القيود.. وقال نقيضهم في التطرف: الحرية هي الانسجام الكامل مع الدولة.. وأما جون ستيوارت مل(2) فقد آثر التعريف بالتقسيم لا بالحد؛ لأن التقسيم مرحلة تسبق التعريف، والتقسيم في بدايته لا يعطيك التصور ولكنه يسلمك في النهاية إلى صحة التصور بأوضح ملامحه، وإذن فالحرية حريتان: انعدام القيود.. والمطالبة بهذا اللون ضرب من جنون الفلسفة البشرية، وبالأخص فلسفة الوجوديين؛ لأنه لا يملك الحرية من القيود إلا من خلق القيد، والوجود البشري مكبَّل بالقيود في عقله وغرائزه ورغائبه وبقائه ومحيطه الزماني والمكاني.. والقسم الثاني الحرية المقيدة، وهي انعدام بعض القيود، والحرية المقيدة حريتان: حرية مقيدة توصف بالحق والصواب، وحرية توصف بالخطأ والظلم.. وليس في مباحث الديموقراطية أي رأي عن التربية على الأخلاق الفاضلة؛ فإن كان الديموقراطيون لا يؤمنون بها فقد دمَّروا أنفسهم بأيديهم، وإن آمنوا بها فيلزمهم التقيُّدُ بنتائجها، وهم لا يقيدون الديموقراطية بالنتائج من تربية المصلحين.. وللتربية الإسلامية خصوص مِيزة وجوداً وفكراً بسبب مِيزة المجتمع الصادر عن تربية، وصفة المجتمع المسلم معصوم؛ لأن المسلمين لا يتواطؤون على ما هو منكر في دينهم، وليس كذلك عَلَنُ غير أهل الإسلام؛ فإن الخطايا المحرمة في دينهم من سفاح وقمار وخمر توجد علناً في مجتمعهم، والمجتمع المسلم يأبى للمسلم تربية أو حضانة أو خلطة ذات تأثير لغير ضرورة أو ولاية غير إسلامية.. ثم يُراهن علماء المسلمين وفقهاؤهم ومفكروهم الذين يوجهون مسيرة التربية والتجانس الاجتماعي على صواب دينهم وغلبته وفلج برهانه أمام كل حائر ومستشكل ومعترض؛ وإذن فهم ضامنون صواب السلوك وسلامة التجانس كلما كان دينهم هادياً للتربية؛ لأن برهانه غالبٌ غيرَهم بمعقوليته وحكمته وعدله وكماله.. وروسو صاحب نظرية العَقْد الاجتماعي تتظاهر أعماله بالعطف على البؤساء والمجرمين، وهو من أساطين النظرية السياسية، فلا عجب أن يكون من أهم وظائف المحاماة العطف على المجرم ومحاولة تبرئته باختلاق فقدان الأهلية، وأن يكون من مبادئ النظرية السياسية التي اشتُقَّ منها بهرج حقوق الإنسان إلغاء كل عقوبة تمس الجلد أو العضو أو الدم إلا ما هدَّد أمن نوع السلطة السياسية!!.. ومن مبادئ النظرية السياسية العامة القائمة على تفلسف الديموقراطية أن قوة الاشتراع تحفظ المساواة!!؛ فهذه فلسفة ألفاظ لا فلسفة معانٍ، فكلمة (قوة) اسم علاقة لا تعني شيئاً إلا بالمقارنة بين شيئين، و(الاشتراع) اسم حدث يقتضي الإمعان في إبعاد شرع الله القائم، و(المساواة) اسم علاقة اتُّـخِذَ شعاراً، ولا معنى للمساواة في القانون إلا بعد وجود التساوي في الواقع كاتحاد العمل أو المواهب والكفاءات، فتساوي الطبيب والغفير (الحارس) في العطاء مساواة لا تجوز، فإن أجيز فهو من فعل البشر.. وتفضيل الطبيب على الجرسون (الخادم) هو الحق لوجود الفوارق في الوقائع؛ فإن حصلت التسوية فهي من فعل البشر.. إلا أن لفظ المساواة إذا أريد به أن يكون ذا مضمون فكري فلابد أن يكون محكوماً ببراهين ما هو مساواة، وأن يكون البرهان وجوداً سابقاً الحكم بالمساواة قيمة، وذلك البرهان هو أن يكون لفظ المساواة ذا مضمون فكري يحكم على المساواة في موضعٍ بالعدل، وفي موضع بالظلم؛ إذن لا مضمون فكرياً للمساواة إلا بمفهوم العدل ومقتضاه.. ومن المبادئ مراعاة العلاقات التي تنشأ من الوضع المحلي، ولا معقول لهذه المراعاة إلا باشتراط الوحدة المركزية سياسة ونظاماً ودستوراً، وليس هذا المبدأ الفطري الضروري من بركات الفلسفة السياسية الصهيونية المجرمة، بل هذا من لبِّ اللبِّ في شرع الله، ومهمة ولاة الأمر أن يكشفوا عن مراد الله ويطبقوه في مختلف الأوضاع.. مع العلم أن المبادئ ثابتة في منطوق الشرع، وإنما المراد تطبيق المبدإ المطابق على الواقعة المستجدة؛ ولهذا اتفق الأصوليون على أن الأحكام محصورة والوقائع غير متناهية.. ومن مبادئ النظرية العلمانية التوافق بين العلاقات الطبيعية والقانون، وهذا والله حق، ولكننا لا نضمن إحقاق هذا الحق إلا إذا ضمنا أن القانون تنزيل مَن خلق الطبيعة وعلاقاتها؛ لأن الخلق قدرة القادر جل جلاله، والشرع علمه وعدله وحكمته، وأما قانون الأفعى فقد غصَّت به البشرية من حيث تشكو كل يوم حيف القوانين على فطرتها وحياتها.
قال أبوعبدالرحمن: إذا أطلقت السياسة شملت الأحداث التاريخية الحديثة فهي تاريخ العالَـم بشرط الحداثة، وشملت فقه الحداثة الذي يتلمَّظ به المتحاكون بالتحليل، وكأنه لا قوى بشرية خفية تطبخ الأحداث، وشملت الظواهر التي تتميز بها دبلوماسية أي دولة.. والغالب في التقسيم السابق لسقوط الشيوعية أن المعسكر الشرقي دول أيدلوجية إلا أن له سياسة تحليلية في المطامع الاقتصادية ونحوها، وأن المعسكر الغربي دول تحليلية إلا أن له سياسة أيدلوجية كمبدإ حماية الأقلية النصرانية.. وشملت النظرية السياسية القانون العام للمبادئ التي تحكم السياسة الدولية العامة، وهذا الفرع هو المصدر الخصيب لفلسفة النظرية السياسية.. وأما الديبلوماسية فهي المعالجة الذكية التي يقوم بها محترف السياسة، و هي لإنجاح موقف، أو تحقيق ربح يخدم انتماء المحترف.. والسياسة في التاريخ العربي عرف على الأحكام السلطانية التي تتناول التنظيم الفقهي لأحوال الراعي والرعية، وللتعامل مع غير أهل الملة وهذا جانب أخلص له الفقهاء، كما أنها عُرْف على المواعظ والآداب والحِكَم التي تُسدى للراعي حول العدل والتورُّع والحزم، وقد أخلص لهذا الجانب الوعاظ والأدباء والأخباريون متأثرين بالفلسفة القديمة التي مزجت بين السياسة والأخلاق والفلسفة، وأما السياسة - بمفهومها الحديث، وعلى أساس أنها نظرية تلتصق بالفلسفة إطاراً وبالأحداث مضموناً - فقد كانت مكيافيلية اللب والجوهر، ومكيافيلي غامض النشأة والهُـوِيَّة، وأما نظرية السياسة الفلسفية فقد صاغها بعض الفلاسفة مع تتمات أخرى ككتاب أصول فلسفة الحق لهيجل، ولم أجد في التراث العربي اهتماماً بالنظرية السياسية على أنها فنٌّ مستقل بنفسـه على الرغم من أن العرب قرؤوا تراثاً يونانياً فلسفياً في السياسة، وإنما اهتموا بالإدارة والنظام والحدود والأحكام السلطانية.. وما كتبه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى عن السياسة فهو من هذا الباب، وأما تنظيم السياسة بصفتها جهازاً، وتنظيم أجهزة ما يتعلَّق بها - كالشورى عند المسلمين، والحزبية أو قوانين الحرية عند غيرهم -، وتوجيه عمل كل جهاز: فلم يتعرَّض له تراثنا؛ والسر في ذلك أنه لم يوجد في تاريخ الإسلام ظرف يُشعِر بالحاجة إلى تفلسف في النظرية السياسية؛ ولأن عناصر النظرية السياسية بَدائهُ مفرقة في تفسير النصوص الشرعية، والأهم من كل ذلك أن النظريات السياسية الفلسفية الراهنة وُجِدت بدافع الإعجال بقيام دولة عالمية يهودية واحدة في برنامج العمل الصهيوني الخفي، وهذا الباعث لم يوجد (ولن يوجد) عند أهل الإسلام؛ لأن عملهم في العلن دائماً، ولأنه ليس في تاريخهم العمل خفاء على تشكيك الخلق في أديانهم ومذاهبهم، وإنما يواجهون الناس بالحوار والحجة مواجهة علنية واضحة، والله المستعان، وسبحان ربك عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
***
(1) قال أبو عبدالرحمن: هذا وصف لعنصر واحد؛ فها هنا تأتي بالوصف لا بياء النسب؛ فتقول: (الأساس)؛ فإذا كان الوصف لأكثر من عنصر قلت: (الأساسية) بياء النسب.
(2) جون ستيوارت مل (1806 - 1873م) فيلسوف إنجليزي لم يتلق علمه في مدرسة أو جامعة سوى مدة وجيزة التحق فيها بجامعة كمبردج، وإنما تلقى تعليمه من أبيه الفيلسوف، وهو باتفاق الأغلبية أكبر مفكر إنجليزي في القرن التاسع عشر.. وأعظم شيئ في حياته أنه استوعب العلم في وقت مبكر جداً، ولهذا قيل: إن معارفه تكبر سنَّه بربع قرن.. وجون سيتوارت مل رائد الفلسفة التجريبية الحديثة التي قامت على أنقاض الفلسفة التجريبية القديمة التقليدية، وكان رائدها دافيد هيوم.. لم يمتهن مل الفلسفة على أنها لذة عقلية؛ وإنما احترفها أداة للمنفعة؛ فقرَّب لغتها إلى مدارك الناس، وخرج بحكم تجربته على فلسفة العقليين والحدسيين في القول بالأفكار الأولية الخالصة (المعاني الفطرية)، وقال: كل معرفة عقلية تكتسب من الخبرة الحسية (وهذا هو الصحيح)، وكان في هذا مقتفياً جون لوك ودافيد هيوم، وقال أيضاً: إن الأعمال العقلية مجرد حركات آلية مردها إلى تداعي المعاني وترابطها.. وغلا في نزعته التجريبية فأخضع المعاني العقلية والمثالية لمناهج الدراسات العلمية التجريبية كالأخلاق والآداب والاقتصاد السياسي والقانون، وردَّ كلَّ معرفة عقلية (يقال: إنها فطرة أولية) إلى الاستقراء التجريبي، وهذا صحيح.. وعِلْمنا بما أنزل الله عن وصف بعض الغيب قائم على براهين علمية في الآفاق والأنفس، وهو استقراءٌ تجريبي الغرض منه الإيمان بالغيب كما وصف الشرع بدون افتراء كيف أو كَمٍّ لم يرد في وصف الشرع؛ فالتجربة إنما هي للبرهان على المغيَّب لا إحضارُ المغيَّب نفسه للمشاهدة.