تتمة لحديث الأمس، لا أخفيكم، فإن أول خطوة أحلم بها هي: إدانة الواسطة، واعتبار أن هذه الكلمة مدعاة للخجل لا للفخر والرياء والمفاخرة، لقد أصحبت كلمة «واسطة» في ألسن الأطفال والصغار والمراهقين مرادفاً للقوة والمكانة والمنزلة الاجتماعية، ومرتبط بقفز النظام والوصول للأهداف صعبة الحصول عليها بطريقة سلطوية، فلدى المراهقين - بنات وأولاد - رغبة عارمة في الحصول على شيء ما بطريقة الواسطة لأن هذا يعني أن لديهم قوة في عائلتهم يفاخرون بها أمام أقرانهم، وأنهم يحصلون على أشياء لا يستطيع الإنسان العادي الحصول عليها، في وقت يجب أن تكون كلمة واسطة سوء استغلال للسلطة والمنصب، لكن الحاصل هو العكس تماماً. وصارت الواسطة ثقافة اجتماعية وتباهي. إحدى صديقاتي تشكو لي من ابنها المراهق الذي يدرس في الصف الثالث ثانوي، تقول: «لا يدرس، وكثير الغياب عن المدرسة، وإني حينما نصحته من أجل الحصول على مجموع يؤهله لدخول تخصص جيد في الجامعة، قال لي: ليه أجيب مجموع أنتم جيبوا لي واسطة»، تكمل هذه الصديقة شكواها، قائلة: «ابني طول سنوات دراسته مجتهد ومنتظم، لكنه لا يريد دخول الجامعة إلا بواسطة متحججاً بأنه ليس أقل من أقرانه».
في الحقيقة، الوضع صعب وما تلك الحكاية إلا مثال رغبت أن أوضح به وجهة نظري لكم. الأدهى والأمر أن الوضع وصل بطلب الواسطة والبحث عنها من أناس يبحثون عن حقوقهم، لأنهم لو اتبعوا الطرق الرسمية فسينتظرون كثيراً والواسطة أسرع، لذا يفضلون أن يدخلوا على أقاربهم أو أصدقائهم في مكاتبهم أو مَن بينهم وبينهم جاهات ووسائط ومعروف مقابل أن يتناول الشاي معه على أن تنجز معاملته وربما أخذت وقتاً أطول من المعتاد لأن هذا أصبح سلوكاً شائعاً وأسلوباً لتقاضي المعروف، ومن كان في منصب عرف هذا الأمر جيداً، بل إن العائلات التي لا تستفيد من ابنها في منصب تعتبره ابناً عاقاً للأسرة والعائلة والقبيلة ما لم يكسر النظام من أجل العائلة الكريمة، وأن يقدِّم خدماته لأبناء عمومته وأقاربه بل أصدقاء أقاربه وأقارب أصدقائه.
إن الحرب على الواسطة تكمن في تجريم المصطلح في البداية، ومن ثم العمل على اعتبار الشروع فيه مع وقوع الظلم على أحد بسببه أو حرمان أحد بسببه أو عدم وجود تكافؤ في الفرص هو فساد إداري يجب العمل على اجتثاثه، وهذا لن يتم إلا من قمّة الهرم إلى قاعه، ومن قاع الهرم إلى قمته في ثورة ضد الواسطة، ولو قدّر لباحث ما أن يبحث مقدار الخسائر المادية والخسائر العينية والخسائر المعنوية لوجدنا رقماً ضخماً لا يمكن تجاهله أو السكوت عليه، لكن حتى ذلك الحين: أحسن الله عزاءكم في مجتمع لا يعتبر الواسطة شكلاً من أشكال الفساد الإداري.
www.salmogren.net