في عام 1425ه كتبت بحثاً عنونته ب»ثقافة الشباب الخليجي - رؤية مستقبلية» وفرقت فيه بين (المستقبل المتوقع) في ظل الظروف والمعطيات الحالية آنذاك دون التدخل أو السعي للإصلاح والتغيير، و(المستقبل الممكن) الذي يوجب العمل الجاد من أجل إعادة البناء الثقافي، ولكن مع أخذ الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية في الحسبان، وأخيراً (المستقبل المرغوب فيه) وهذا لا وجود له في الزمن المنظور إلا في ذهنية المثقفين الحالمين والشعراء الغاوين المغوين.. وفي الممكن تحدثت كثيراً عن الدور الثقافي المرتقب للتيارات الفكرية الوافدة في ظل معطيات عصر العولمة الجديد، فهي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بل ربما قبل ذلك بسنوات معدودة انتقلت من كونها مجرد مسوق للأفكار ومبشر بها إلى منفذ لمشاريع فكرية في المنطقة سواء بطريقة فردية أو من خلال فرق عمل معروفة ومحددة، علاوة على أنه هناك مراقبين غربيين يمارسون التقويم والنقد والمتابعة ومن ثم تغيير المسار أو مجرد التصحيح والمضي قدماً حسب الخطط التي رسمت بحذق ودون علم الكثير، وأشرت في ثنايا هذه الرؤية الشخصية إلى أن هذه القوى ستتنامى في الحقبة التاريخية القريبة رغبة في تفكيك المرجعية الثقافية الموصومة بالرجعية والتخلف وكبت الحريات وإجهاض حقوق الإنسان وظلم المرأة!!، وكذلك من أجل تفتيت قوى المقاومة الطبيعية في الجسد الخليجي، وذلك بالرد على الرموز العلمية مثلاً بشكل مكثف ومدروس والدخول معهم بجدليات ومنازلات حتى يتسنى الحد من تأثيرهم وبيان محدودية تفكيرهم وعدم إدراكهم لمستجدات العصر ومعطيات الواقع، ورجحت حينها أن هذا التوجه سيولد صراعاً فكرياً واضحاً على الساحة الثقافية/ الخليجية تكون الغلبة في البداية لقوى التفكيك الثقافي وعلى رأسها الليبرالية، ولكن لتعجلها - أي الليبرالية - النتائج من جهة، واختيارها مطارحة القضايا الراسخة في ثقافة المنطقة من جهة، واصطدامها بقوى ما زالت قوية متأصلة ومتجددة رسمياً وشعبياً ستفشل في إعادة التركيب وستصبح مع الزمن عنصراً وخلية للفساد والإفساد في المنطقة، وسيحسم الصراع في جولته النهائية لصالح الثقافة الأصيلة، وسيسود المشروع الحضاري الثقافي الإسلامي المعتدل على الصعيدين القيمي والثقافي، والمرجح أنه سيكون للعالم/ المفكر دوراً هاماً في هذه المرحلة، إلا أن هذا المشهد في ملامحه العامة سيفرز نوعاً من الصراع بين فريقين :
فريق (المثقف المحلي/ المغترب) المبشر والداعي إلى الحرية بلا هوية أو حدود ودون ضوابط أو قيود، و فريق (المثقف الإسلامي/ المنفتح ) الذي يسري في جسده ثقافة مؤصلة ومتجددة، ويعرف جيداً مسارات الواقع الوطني والإقليمي والعالمي، ويعي بصورة دقيقة منعطفات المرحلة وتحديات المنازلة، و يحظى مشروعه الثقافي بحسن المراجعة والإعداد لمرحلة أكثر صلابة تتحطم عندها أكاذيب وازدواجية المشروع الغربي.
وإذا ما حاولنا تأطير هذه المشاهد زمنياً يمكن القول:
في السنوات العشر القادمة قد يسود فيها نوع من التفكيك لمنظومة الثقافة التقليدية في المنطقة وستتأثر عدد من المفاهيم والقضايا والمؤسسات الثقافية والإصلاحية و... بحكم ضعفها سواء التكويني أو الإداري في مواجهة السهام الموجهة إليها من جهات متعددة، وفي هذه السنوات العشر ستكون هذه المنظومة التقليدية قد قامت بالمراجعة وولدت مؤسسات على مستوى المواجهة وتعلمت فنون الجدال وأدركت سنن التدافع بشكل أقوى وأحسن.
في العشر سنوات التالية سيزداد تسليط الضوء على أخطاء الآخر ويكتشف شباب الخليج أنه سُرق منه الكثير، وتُعرض للخصوصية الثقافية، وأن الحضارة الغازية قوامها اللهو ومسعاها الأساس عملية التفكيك وليس صنع الإنسان الخليجي كما يسوقون ويشاع، وباكتشاف الشباب هذا الأمر تحدث اللحمة الثقافية بينه وبين التيار الإسلامي الوسط، وتكتشف قوى التفكيك أنها أضلت المنهج وجهلت حقيقة البناء التكويني في هذه المنطقة بالذات، لأن تفكيك الثقافة الإسلامية لدى الشعوب الخليجية خاصة في المملكة العربية السعودية أمر مستحيل لن يجدي معه محاربة الجمعيات الخيرية أو تغيير المناهج الدراسية أو الكف عن توزيع المصاحف أو وصم المجتمعات فضلاً عن الأفراد أصحاب النفوذ والهيبة والتأثير بالإرهاب والتطرف وهم منه براء.
هذا ما كتبت قبل ست سنوات تقريباً، ولذا فإنني أعتقد أن الأستاذ الدكتور عبد الله الغذامي المفكر الحر المعروف في محاضرته الموسومة (الليبرالية الموشومة) أصاب عين الحقيقة حين نفى عن المثقفين الليبراليين التزامهم بمنهجهم المعروف في عدم الإقصاء وتسفيه الآراء، وذلك باختصار لأن المطلوب من هؤلاء المثقفين في هذه المرحلة التاريخية ممارسة التفكيك لا المثالية في التطبيق وهذا يوجب ويستلزم هذا السلوك، كما أنه من الطبيعي التخفي وعدم الظهور ولذا لن تجد(على الإطلاق أن مثقفاً سعودياً قال عن نفسه أو مجموعته أنه ليبرالي وأنهم يمثلون الليبرالية أياً كان موطنها وفي أي صورة ظهرت)، فواجبهم في هذه المرحلة التاريخية الحرجة -كما قلت- التفكيك والهدم لا التشييد والبناء، ولذا فهم يا صاحبي سيتخفون وستعرفهم في لحن القول، إذ إنهم (يصرخون وسيصرخون بأقسى صوت ممكن تجاه الفتاوى التي لا تروق لهم، يريدون حجب تلك الفتاوى والآراء ولا يهمهم أين هم من الليبرالية التي تنادي بحرية الرأي وحرية التعبير!! وهم ينشطون وسينشطون في انتقاد (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (والمناهج) و(الغلو) و(الإرهاب) و(الخدمات العامة) لأنهم يسعون إلى التفكيك لمجرد التفكيك!!، وليس صحيحاً ما ذكره سعادة الدكتور من أن هذه موضوعات بعيدة عن اختصاصهم وكان الأولى التركيز على قضايا الفكر الليبرالي!! فهي على قائمة أولويات مهامه في هذا المرحلة كما سبق وأن أشرت. ولذا جزما لن يجد الباحث الأكاديمي الحر أمثال الدكتور الغذامي المادة التي تسعفه للتحليل والنقد، ولن يتمكن من جعل هذا الفكر تحت مشرحته العلمية المحايدة، ولكن هذا التضليل لا ينفي الوجود ولا يمكن لعاقل تجاهل الأثر والتغابي عن وجود الرموز و(الحر تكفيه الإشارة) و(اللبيب يقرأ ما بين السطور)، ولعل ما كتب بعد انتهاء المحاضرة وحتى تاريخه خير دليل وأبين برهان..
وإلى لقاء والسلام.