سؤال يطرح نفسه، ألم نصل إلى وعي كامل بأن الواسطة هي أحد أنواع الفساد الإداري؟ إن كانت الواسطة تعني أن أحدهم حصل على حق لا يستطيع الحصول عليه بدون شخص آخر، فهذا معناه أن مبدأ الفرص المتكافئة بين المواطنين مختفٍ تماماً، ومعناه أيضاً أن المتوسّط قبض منفعة (ما) من المتوسط له، ليست بالضرورة مالاً نقدياً، وهذا محتمل، ولكنه قبض منفعة عينية أو جاهية أو حتى تمكين قريب له من أخذ شيء كان أولى به غيره.
المشكلة لا تكمن في أننا لا نكافح الواسطة أو أننا نحذِّر منها أو نحاربها، بل تكمن بأننا لم ننجح في إدانتها، وأن أي إدانة لها فهي تخرج خجولة للغاية لا تعدو أن تكون مقالاً أو تحقيقاً صحافياً أو تقريراً عن جهة ما، وأحياناً تأتي على هيئة خاطرة في صفحة مشاركات القراء، أما الأجهزة الرقابية والمتابعة والمباحث الإدارية المعنية في مكافحة الفساد الإداري لم يدخل في قاموسها بعد أن الواسطة نوع من الفساد الإداري!
هل الواسطة رشوة؟ أيضاً سؤال يطرح نفسه، إن لم تكن في حقيقتها رشوة ماذا يمكن أن نسميها؟ الفرق بينهما أن الواسطة تقبض حقوقك عينية أو جاهيّة، في حين أن الرشوة تحتاج إلى مبلغ نقدي متسلسل تقوم الأجهزة الأمنية بعمل كمين فيه وتسليم المبلغ للآخر ويتم القبض عليه بتهمة الرشوة. أما تبادل الخدمات من خلال استثناءات أو قفز على النظام أو عبث بحقوق الناس لا يمكن أن نسميها إلا واسطة في مسمى محايد لا يأخذ طابع الإدانة أو طابع التجريم وإنما فقط واسطة!
هذا الفساد الجديد الذي «كل شيء تخلَّصنا منه إلا الواسطة» هي شريعة يسود فيها صاحب المنصب ويتبادل المنافع مع آخرين مقابل خدمات يقبضها منه ويقبضون منه خدمات أخرى، وهذا الفساد المستشري المسمى بالواسطة لم ينجُ منه الموظف الكبير ولم ينجُ منه الغفير، فالدوائر الحكوميّة تنوس به، فنجد أن موظف الأرشيف له صلاحيات، والصادر والوارد، وإدارة شؤون الموظفين وانتهاء برئيس أو مدير الدائرة أكبر اللاعبين وأكثرهم خبرة في ملاعب كرة الواسطة!
الجريمة الأولى في حق بلدنا - وبدون مزايدة على الوطنية - هي الصمت الرهيب في إدانة الواسطة وعدم تصنيفها كأي نوع من أنواع الفساد بل وصل الأمر لتشريعها دينياً تحت مسمى «شفاعة حسنة» ورغم قناعتي بأن الشفاعة الحسنة شرط من شروطها عدم الإضرار بقليل أو بكثير أو حتى بشبهة محتملة بالحق العام والحق الخاص، إلا أن هناك من يستخدم هذا المصطلح الديني الشريعي ليبرِّر الواسطة ويمنحها صبغة دينية شرعية يأمر بها الشارع الحنيف، وهم يعلمون أنه سبحانه وتعالى بريء من أن يأمر الناس بأكل حقوق الناس أو الحق العام باسم «شفاعة حسنة»، الجميع يعرف أن الشفاعة الحسنة هي سلوك شرعي مؤطر بالأطر الشرعية الأخرى التي تضمن سلامة المقصد والنية وسلامة الوسيلة مع حفظ الحقوق الإنسانية الشهيرة!
مساحة المقال الآن انتهت، لذا سأكمل معكم غداً الخميس في نفس هذه الزاوية حديثي عن الواسطة.
www.salmogren.net