قيل إن فيلسوفاً إغريقياً عاش قبل الميلاد بألف عام بأنه يعتقد أن الفلسفة قد وُلدت بسبب دهشة الإنسان عند رؤيته شيئاً ما أو عندما يخطر بباله فكرة ما فيرفع صوته عندئذٍ قائلاً: يا الله ماذا تفعل بي!! ماذا أفعل بنفسي!! كلما تقدمت في العمر يزداد شعوري بأني لا أزال طفلاً دون معرفة وكأنني مسكون بالخوف من الضياع، أيهما أكثر موتاً شتات الذات أم تشتيت الآخرين؟ لا أقدر أن أقبل نفسي إلا إذا فتّت الآخر، لا أستطيع أن أحيا كذات إلا إذا حطّمت الآخر، ما أشقى الإنسان الذي كلما تقدم في العمر لا يذكر إلا القديم، وكأن هذا الإنسان ليس لديه حاضر ولا مستقبل، فيبكي دائماً على الأطلال، فنحن شعب لا يجد في حياته إلا رثاء الأطلال والبكاء عليها، حقاً إن هذا النمط من العيش إنما هو نمط المتخاذلين الذين لا يعرفون أنفسهم وإذا أردنا أن نتكلم بموضوعية لا بد لنا من أن ننتقد الذات نقداً مجرداً من التحيز إلى ذواتنا والاعتراف بأننا لو كنا جيدين لما سلكنا هذا السلوك الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه سلوك غير طبيعي، سلوك يتناقض مع كافة المفاهيم التي تضبط سلوك الإنسان وتضعه على المسار الصحيح الذي ينبغي عليه أن يسلكه في حياته.
إذا نظرنا نظرة شاملة لسبر أعماق هذا المجتمع العربي نجد العجب العجاب! نرى أن هناك بعض الناس الذين يمكن أن نشبهم بالسلَّم، يصعد عليهم الصاعدون وينزل عليهم النازلون وأما هم فإنهم لا يصعدون ولا ينزلون بمعنى آخر فإنهم لا يصنّفون بين الأحياء أو الأموات، يعيشون على هامش الحياة.
كان «يوجن» لا يملك من متاع الدنيا إلا عصاه وثوبه وخبزه وكان في غاية السعادة، لا تراه إلا مستبشراً مبتسماً، وفي أحد الأيام وبينما كان جالساً أتاه الإسكندر المقدوني ذلك الملك العظيم الذي خضع له الشرق والغرب، وفي نيته أن يقدم له خدمة، فسأله إذا كان عنده حاجة يقضيها له أو طلب ينفذه له، وبدون تردد أجابه قائلاً: «نعم أرغب في شيء واحد فقط وهو أن تغير مكانك قليلاً حتى لا تحجب الشمس عني، ثم أردف قائلاً: إنني أعجب من الإنسان الذي يغسل وجهه مرتين في اليوم ولا يغسل قلبه مرة واحدة على الأقل في السنة.
قال أحد الحكماء: يتهالك الناس ليعرفوا منابع الأنهار ومجاريها ومصباتها ويكتشفوا قمم الجبال ورواسيها، نعم يجهدون أنفسهم لإماطة اللثام عن أسرار دوران النجوم ويستقصون البحث في علوم الإنسان ولكن مع ذلك، وهذا ما يدعو للدهشة والاستغراب، فإنهم لا يبدون أي اهتمام لمعرفة مكنونات نفوسهم، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: «لا أفهم يوماً كيف أن الناس يشعرون بالرفعة إذا شاهدوا أن أخاهم ذليلاً» وقال أيضاً:
- حب المال يوهن الدين ويفسد اليقين.
- لا تسألني من قال القول ولكن ما هو القول.
ويحضرني بهذه المناسبة ما يلي:
نحن لسنا محتاجين إلى الكثير من العلم ولكننا محتاجون إلى الكثير من الأخلاق.
- دائماً أخطئ وما زلت وكلي أمل أن أخطئ حتى أحصل على اليقين ولكن زفراتي تحتاج إلى متكأ.
المال الذي تخاف عليه من الغير يجب أن تخاف عليه من نفسك.
وفي هذا المجال فإنني أقول بأن المضحك والمبكي في وطننا العربي أن مشكلة الفرد فيه تتلخص حصراً بالآخر. الفرد فينا يريد أن يتطفل على الآخر وذلك بالبحث عن عيوبه ونقائصه وتتبع عورات هذا الآخر دون أن يسأل نفسه أبداً عن ذاته، يريد أن يعرف ضعف الآخر ويتجاهل معرفة نفسه.. ما قيمة حياة الإنسان دون أخلاق حتى ولو ملك مال قارون، أو أنه شغل أعلى المناصب؟
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (النيّة هي القلب).
ومن المشاكل التي نعاني منها أننا مسلمون ونقرأ القرآن الكريم ولكن نقرأه دون التمعُّن بمعانيه وقيمِه الإنسانية التي لو استمسكنا بها لكان النجاح المحقق لنا في الحياتين العاجلة والآجلة، إننا لا نقرأ تراث فلاسفتنا وبالتالي فإننا لا نتثقف بالمبادئ التي تعارفت عليها الإنسانية في جميع أنحاء العالم وهكذا فإننا نبقى جهلة خارج الزمن.
نحب ونكره ولكن يجب أن نعلم بأنه لا يوجد في العلم حب وكره، ويحضرني في هذا المقام قوم شعبي جميل «حسّن النيّة ونام في البريّة»، علينا ألا نجعل همنا الأول والأخير تتبع الآخر وبدلاً من ذلك دعنا نركز على أنفسنا ونترك الآخر لنفسه لأننا إذا ركزنا اهتمامنا على الآخر فإننا سنكون كالشجرة التي تزهر ولا تثمر وبالتالي فإن محصلة إنتاجنا ستكون صفراً.