Tuesday  25/01/2011/2011 Issue 13998

الثلاثاء 21 صفر 1432  العدد  13998

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

ابنتي أم عبدالرحمن، حرم الملحق الثقافي في سفارة خادم الحرمين الشريفين في تونس، الطالبة في قسم الدراسات العليا بجامعة الزيتونة، عادت من تونس في أوج تدفق الجياع والمقهورين في شوارع المدن التونسية.

وكان مقرراً أن تناقش رسالتها للماجستير خلال أسبوع، ولكن الأحداث المتلاحقة خلطت الأوراق، وحملتها مع طائفة من العوائل السعودية على العودة إلى دفء الوطن وأمنه، وإن بقيت كالمعلقة؛ لأن زوجها لمَّا يزل هناك مع بقية زملائه لإدارة أعمال السفارة.

وما كان أحد من المراقبين ولا أهل الشأن يظنون أن الأحداث ستكون بهذا التسارع وبتلك التحولات، وما كان أحد يتوقع أن المؤسسة السياسية بهذه الهشاشة القابلة للانهيار، بحيث تعصف بها ثورة الياسمين كما يقولون. والمتابعون للأحداث يُحدقون في الشاشات البيضاء، ويلاحقون المواقع، ويحملقون في أنهر الصحف بحثاً عن سر هذا الانهيار المفاجئ والسريع للمؤسسة السياسية التي استطاعت أن تحكم البلاد عقدين ونيفاً، غير أن اهتياج حملة الأقلام في أعقاب الأحداث الجسام المتسم بالزخم العاطفي وتدفق المشاعر وخلق القُبَّةِ من الحبَّة يُضِلُّ الرأي العام، ويحجب الحقائق.

كما أن المزايدين يهتبلون الفرص؛ ليكون لهم مواطئ قدم كاذب في الأحداث. والناس الخليون يُسيغون ما يُقال في لحظات التوتر، ويكون للمستساغ فعله في تضليل الوعي وارتباك المواقف، ولربما يطول أثر التهييج العاطفي، حتى لا يكون هناك متسع لقبول الحقائق الناسلة من تحت ركام التخرصات والمزايدات الرخيصة.

وتونس الوطن والدولة تملأ فضاءات الإعلام، وأحداثها تكاد تطغى على أحداث السودان واليمن ولبنان، ولكن الحقائق متلفعة بضباب التشنجات العاطفية، وقدر المملكة دائماً يأتي بحجم إمكانياتها، فهي الأبعد عن أحداث تونس، ولقد تكون حكومتها السابقة الأكثر سعياً في الإقصاء والانتباذ من الأهل مكاناً قصياً، وما كانت تشكل ثقلاً سياسياً في سائر الأحداث.

ولعلنا نستذكر موقفها من أحداث الخليج ومن احتلال الكويت بالذات، ولقد كنت أحد المرشحين كوفد صداقة إلى تونس، وفي اللحظات الأخيرة تلقينا بلاغاً بعدم الموافقة على استقبال الوفد، فكان أن حُرمنا من مواجهة الشعب التونسي المغرر به، وشرح موقفنا من قضية احتلال الكويت والاستعانة بقوى عالمية لحسم الموقف لصالح الشرعية؛ إذ ما كان خلافنا مع حكومة صدام حسين يتعدى احتلاله بلداً عربياً كامل السيادة، وبخروجه تنتهي الإشكالية، وتعود القوى العالمية إلى قواعدها، وذلك ما حصل بالفعل. ولم يكن فيما أعلم بين المملكة وحكومة تونس السابقة أية علاقة استثنائية بل هناك اختلافات في وجهات النظر، ولكن حكمة المملكة وقدرتها على إدارة الأزمات وامتصاص التوترات جعلتها تُمضي الأمور مصانعة:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

وجعلها تشرب على القذى:

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

ولم يجد «ابن علي» من يؤويه، لم يتردد في الاستنجاد بالمملكة لما لها من سوابق، ولقد عبّر الأمير سعود الفيصل عن مواقف المملكة بما لا مزيد عليه ولا مزايدة، وتلك سجية وخليقة لا تخلُّق.

أحسب أن المملكة ربما تكون الوحيدة التي تحسم أمرها في أحلك الظروف، ولقد تفاجئ المشاهد بما لا تتسع له أذهان الدهماء، ولكن العاقبة للحق والتعقل والتوازن ومواجهة الأحداث المفاجئة برباطة جأش وعقلانية وخروج متوازن من شرنقة الحدث.

تلقيت العائدة الواجفة، وسعدنا بسلامتها وسلامة أبنائها، وبدأت أستجلي الأخبار ممن لم أزود.

- ما الذي أوقد النار في الهشيم؟

- ومن الذي حمل الكتل البشرية على التدفق بعنف ومواجهة قوى الأمن بهذه الشجاعة؟

- أهي المؤامرة كما كنا نحيل عليها؟

- أم هما الجوع والقهر؟

لقد سبحت التخرصات في فضاء الظاهرة، وخاضت الأقلام في لجج المشاكل، وكل يدعي وصلاً بالحقائق، ولكن الحقائق لا تقر لهم بذاكا.

الحكومة التونسية سبحت ضد التيار حيث طرحت علمانية متطرفة تدخلت في أخص خصوصيات الناس، وأكرهتهم على التخلي عن جذورهم الدينية، ولم تقم بينها وبين الرأي العام أية علاقة وُدٍّ. لقد استأثر الأقربون بالأعمال والصفقات والثروات حتى بطرت معيشتهم وشعروا أن ما عندهم من مال وجاه من عند أنفسهم، فلما نسوا ما ذُكِّروا به أخذهم الله بغتة، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، كما مارست الدولة كبت الحريات ومصادرة الحقوق المشروعة لذوي الكفاءات، ولم توفر للعامة فرص العمل ولا المستوى المعيشي الذي يحفظ الكرامة ويصون الأعراض، واستَعْدت عليها العلماء والأدباء والمفكرين، وملأت المنافي برموز الوطن، ولم تبنِ لها ولاءات عند أي طائفة سياسية أو دينية أو عرقية، وعولت على ثلاث قوى خذلتها في ساعة العسرة:

- الأمن والحرس الجمهوري ومن ورائهما الجيش. وكل هذه الفئات الثلاث لن تمضي مع حكومة مجتثة من فوق الأرض. لقد تخلى الجميع، وبقي القصر مكشوفاً للمتظاهرين؛ الأمر الذي عجَّل برحيل الرأس المدبر. لقد كانت تلك الحركة مفاجأة مذهلة لكل المراقبين حتى للمتظاهرين أنفسهم الذين لم يكن في حسابهم أن يرحل الرئيس بهذه السرعة ودون خسائر تُذكر، كانوا يطالبون بحقوق مضاعفة، ولم يدر بخلدهم سقوط النظام.

ومثلما فوجئ العالم بانهيار الاتحاد السوفييتي فوجئ الشعب التونسي ومن ورائه العالم بسقوط الحكومة وهروب الرئيس، وذلك مصير أي دولة لا تملك مشروعية بقائها إلا من ثكنات الجيش وغياهب السجون.

إنَّ هناك علاقة يستخف بها كثير من قادة العالم الثالث، هي علاقة الود والموالاة المتشكلة من العدل والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص وتداول السلطات والعمل على حفظ الضرورات الخمس التي أكد عليها التشريع الإسلامي، إنها الموالاة العفوية التي تفرض نفسها وتنطلق من أعماق النفوس، وليست من فوهات البنادق.

لقد سقط «ابن علي»، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفي إمكان كل زعيم آل إليه الحكم بالغلبة أو بالاختيار أن يجسر الفجوات بينه وبين رعيته بالشفافية والمصداقية والعدل والحرية والمساواة.

وما نوده للشعب التونسي الذي لمَّا يزل يعيش صدمة الأحداث أن يعي خطورة المرحلة؛ فالفراغ الدستوري وانفلات الأمن وتقحم المزايدين والمتطفلين والانتهازيين سيوسع رقعة الاضطرابات، ويخلط المفاهيم، ويربك التصورات، وما لم يمتلك الشعب أزمته بنفسه فإن قيادات متربصة ستقوده إلى الهاوية، والذين يؤججون عواطفه ويوغرون صدور أبنائه ويضللون مفاهيمه بالإطلاقات المعممة والاتهامات الطائشة يقودونه إلى الهاوية، لقد سمعنا من الإفتاءات والتصريحات ما تَعِد بمصير مظلم وتستعدي على دول ليست في العير ولا في النفير.

المرحلة الانتقالية ستكون صعبة، ومرحلة أخذ الأنفاس ستكون قاسية، وعودة المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية إلى وضعها الطبيعي تتطلب الصبر والمصابرة، فالتغيير السياسي كالعمليات الجراحية تحتاج إلى فترات نقاهة وساعات ترقب، وإذا استطاع المزايدون والانتهازيون تشكيل وعي الأمة فإن الأمور ستؤول إلى الأسوأ، وستستمر الفوضى والتصدعات والتكتلات الفئوية التي تقطع أوصال البلاد وتذهب ريحها.

والأمة التي أزاحت عن كاهلها أثقال الظلم والتسلط وحطمت القيد وأرادت الحياة الكريمة جديرة بأن تستقبل أياماً باسمة وادعة مليئة بالآمال العذاب، وليس من حق مزايد أن يعكر صفو منجزها. فليعِ الشعب التونسي مرحلته وإمكانياته وليوطن نفسه على معضلات المرحلة الانتقالية ولينتظر ما تتمخض عنه أيامه الحبلى.

وليثق بأن المملكة العربية السعودية وشعبها معه في العسر واليسر والمنشط والمكره.

 

عائدةٌ من تونس..!
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة