تجتاح العالم العربي ظاهرة غير صحية وهي انتحار الرجال من خلال إحراق أجسادهم في الهواء الطلق، ولا يمكن بأي حال تبرير هذه الظاهرة مهما تعددت عوامل الإحباط في الشارع العربي، لكن الأمر قد لا يخلو من إسقاطات تاريخية في مشروع الفشل العربي، وقد سبق ذلك موجات تفخيخ الأجساد بالمتفجرات في الأمكان العامة.
قد أحدثت تلك التفجيرات بؤسا بين الناس، لأن فيها دلائل على عجز العقل العربي ثم انكساره بسهولة أمام التحديات، وإذا استثنينا ثقافة الانتحار عند اليابانيين، فإن هذه الظاهرة أثبتت اقترانها بالعقل العربي بدءًا بعصر الحشاشين بنو الصباح في قلعة ألموت، والذين بدأوا قصة الحملات الانتحارية من أجل أغراض سياسية..، وإلى عصر التفجيرات عبر الأجساد المفخخة بين المسلمين، وانتهاءً بإحراق الأجساد للتعبير عن رأي سياسي..، وتعزى ثقافة الانتحار في اليابان إلى المشاكل الصحية والاكتئاب بسبب ضغوط العمل والخوف من الفشل، في حين ينتحر العرب بسبب فشلهم في التعبير عن أزماتهم، وبسبب عدم قدرتهم على الحصول على عمل.
قد تعبر تلك الظواهر عن إرث نفسي عميق في الشخصية العربية، وقد تكون إشارة إلى كمية الإحباط بين العرب والمسلمين، ولا يمكن على الإطلاق قبولها دينيًا أو عقليًا لتبرير الانتحار، ولا تعود هذه الظاهرة إلى أسباب دينية؛ إذ لم يعرف المسلمون الأوائل الانتحار، فقد كانت أول انتحارية في العصر الحديث امرأة من حزب علماني، عندما فجرت سماء محيدلي 1985 جسدها في بيروت، أي قبل التفجيرات الاستشهادية بأكثر من عقد من الزمان، وقد يعني ذلك أن العقل العربي عندما يصل إلى حالة العجز عن التعبير عن إحباطاته ينتحر، ووجه الخطورة أن يكون أول تعبير منه انفجار في مكان عام، لذلك يكاد ينفرد العربي بمكانة المتهم الأول في أي حالة انفجار جسدي.
قد تكون هذه الحالة السلبية الراهنة نتيجة لسلسلة من الانتحارات التاريخية، فالعصرالذهبي عند المسلمين والعرب كان في زمن العقلانية المبدعة، لكنه ما لبث إلا أن تراجع أمام المد التقليدي، وكانت هزيمته بمثابة الانتحار بسبب فشله في تجاوز التقليد، فما فعله المأمون من اضطهاد للمسلمين في عقيدتهم يدل على أنه وصل إلى حد اليأس في قضية التغيير المعرفي، فكانت النتيجة إنحسار إبداع العقل العربي، ثم ضموره بعد أن تمت تصفيته فكريا، ليخرج عصر جديد للعقلانية العربية في بدايات القرن العشرين، لكنه لم يستطع مقاومة رغباته الأنانية، ليسقط في أول جولة بعد أن خرج من رحم النهضة العربية مشاريع سياسية ترفع شعارات الديموقراطية والجماهيرية والليبرالية والعلمانية لكنها تفرز أشد أنوع الاستبداد.
كذلك فشل العرب في تجاوز أعدائهم، وذهبت الأراضي العربية بلا خسائر إلى المهاجرين اليهود، لتنهار الروح المعنوية العربية وتنطوي، لكنها وصلت إلى درجة الانتحار السياسي في مشاريع السلام الأخيرة، والذي قدم فيها العرب المبادرة السياسية للعدو وحليفه الغربي على طبق من ذهب، ولم يبق أمام العرب إلا أن يلوذوا إلى سياسة الصمت المؤبد بعد أن فشلوا في الحرب والسلم..، وهي حالة أقرب للخروج النهائي من دائرة الأحداث.
كانت وصفة الانتحار الأخيرة في تحرير الاقتصاد و قبولهم للانضمام للعولمة وسياسة الانفتاح، في واقع لا تحكمه تشريعات وطنية أو ترقبه قوانين تقدم مصالح المواطن على الأجنبي، وفي زمن تئن الجماهير الغفيرة تحت سقف الفقر والتخلف والأمية، ولم يقدم ذلك الانفتاح الاقتصادي غير مزيد من الفقر، فكانت النتيجة انتشار لثقافة الاستهلاك، ثم هروب ثروات العرب إلى الخارج.
تختصر قضايا الانتحار الجسدي الأخيرة ما يحدث من فشل روحي وعقلاني في مهمة رفع مناعة الناس ضد إحباطاتهم، وقد يكون ما حدث هو بمثابة الإعلان عن فشل العقل العربي في حل أزماته الراهنة، وقد يكون بمثابة الكفر غير المعلن بالقيم الدينية والإنسانية، وقد تدخل ظواهر الاحتجاج والمظاهرات الصاخبة في شوارع المدن العربية ضمن ثقافة الانتحار التي تتابع في عالم العرب والمسلمين منذ قرون، وهي حالة قد تعني بشفافية أن بعض المجتمعات العربية لم يعد لديها ما تخسره أي أنها وصلت إلى حالة ميئوس منها، وتعبر عن ذلك بتحديها السافر لمتاريس أجهزة الأمن العربية في الميادين العامة.