لم يكن الشاعر رشيد الحمد- رحمه الله- مبالغاً حينما قال هذا البيت وهو الذي عاش في فترة من أقصى وأصعب الحقب الزمنية في هذه الجزيرة ولكنه كان صادقا في قوله وبطبيعة الحال فإنه لا يمثل في هذا النهج جميع طبقات المجتمع بإطلاقه صفة الجمع بقدر ما يمثل فئة معينة جبلت على الكرم والعطاء وهذا ليس بسبب الثراء الناتج عن ممارسة التجارة بقدر ما هو طبيعة ملازمة للبعض من أصحاب البذل دافعها (اصرف ما بالجيب يأتيك ما بالغيب).
ولعل الباعث لاستحضار هذا البيت هو ما قام به الملياردير الأمريكي (وارن بافيت) وزميله وابن جلدته (بيل غيتس) من عمل خيري جبار حيث ينطبق مضمون بيت الشاعر (الحمد) على ما قاما به حينما تبرع الأول بأكثر من ثلثي ثروته والتي تزيد عن (40 مليار دولار) وتبعه زميله بتبرعه بنصف ثروته للأعمال الخيرية ولم يكتفيا بذلك بل قادا حملة لإقناع 40 مليارديرا من أبناء جلدتهم بالتبرع بجزء من ثرواتهم لذلك العمل النبيل حيث لقي هذا المشروع الخيري صدى لدى أولئك الأثرياء حيث لم يمضِ سوى فترة وجيزة على ذلك إلا وبثت وكالة الأنباء (رويترز) عن انضمام سبعة عشر مليارديرا أمريكيا لتلك الحملة من بينهم الملياردير (ستيف كيس) والخبير المالي (كارل إيكان) والمسؤول السابق في وول ستريت (مايكل ميلكن) حيث بلغ العدد سبعة وخمسين مليارديرا قرروا التبرع بنصف ثروتهم على الأقل وما زالت الحملة مستمرة.
ويبدو أن العدوى قد انتقلت للشرق الأقصى مثل الصين واليابان وكذلك الهند التي يقال بأن أثرياءها الأشد بخلا في العالم إلا أن الملياردير (عظيم برينجي) مؤسس شركة (ويبرو) لخدمات البرمجيات قد كسر تلك القاعدة حينما تبرع (بملياري دولار) للأعمال الخيرية.
والحقيقة فإن الإنسان يصاب بالغيرة والحسد من جرّاء ذلك الترابط الإنساني والتكافل الاجتماعي بين تلك المجتمعات في الوقت الذي يمني النفس بأن يقيض الله لهذه الأمة من يقود مثل تلك المباردات علما بأننا في واقع الأمر لا نقل ثراء عن أولئك، إذ نشرت صحيفة (الوطن) السعودية أن الأثرياء السعوديين قد سيطروا على القائمة التي تضم أثرياء العرب بمجموع ثروات تصل إلى مائة وسبعين مليار دولار وقد احتلوا المراكز الخمس الأولى علما بأنه لم يرد بالقائمة سوى -32- مليارديرا سعوديا ومن المؤكد أن هناك أضعافهم ممن لم تضمهم القائمة علما بأن ديننا الحنيف يحث على مثل تلك الأعمال الخيرية- يقول سبحانه وتعالى - {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية، فليس المطلوب تقليد (وارين بافيت) ومن تبعه والذين بسطوها عالآخر على رأي إخواننا المصريين ولا على طريقة الفارس (ذياب بن غالب) حينما قال:
حلفت ما خلف حلال لوارث
ولا اتركه للوارثين اقسام
ولا على خطي عبدالكريم الجربا الملقب (أبو خوذة) والذي لا يرفض طلبا لأحد حيث يرد بكلمة (خوذة) لمن يطلب منه شيئاً يقول فيه الشاعر فجحان الفراوي:
آخر كلامي لبو خوذة موجه
شط الفرات إلى حدتك المضامي
ملفاي هو منصاي يوم اتوجه
عبد الكريم الليث غاية مرامي
ولكن على الأقل بدفع ولو نسبة بسيطة من تلك الثروات التي من الممكن أن تحل جزءا كبيرا من الإشكالات الاجتماعية.
ولكن يبدو أننا لن نصل لما وصل إليه أولئك من إيثار وبذل وعطاء وإن ما يطرح مجرد أحلام فنحن ندرك أنه لو أراد أحد أثريائنا أن يتصرف بمثل ما تصرف به أثرياء أمريكا لاجتمع أبناؤه وقالوا بصوت واحد ومسموع إن الوالد قد (انهبل) أو (خرف) وأنه لم يعد يحسن التصرف ولابد من الحجر عليه وهذا طبعا لا ينطبق على الجميع ولكن هذا هو الغالب وهو نتاج لثقافة متوارثة درج عليها المجتمع.
وبما أن الشعراء هم لسان حال المجتمع في كل زمان ومكان فلقد تناولوا هذا الجانب في كثير من أشعارهم ويبدو أن هذا النهج وذلك الطرح كان هو السمة السائدة لتلك الأجيال المتعاقبة ولم يقتصر على شاعر دون آخر ولم يرتبط بزمن معين ولعل الكثير من الشعراء قد تباروا من خلال تلك الممارسة النقدية التي ربما تكون حادة أحياناً وهذا طبعاً مرده لطبيعة وظروف الشاعر المعيشية التي تعكس واقعه الاجتماعي يقول الشاعر عبدالله بن دويرج:
كم واحد ذكره بالأقطار شايع
لو تطلبه صندوق كبريت ما طاع
ماله يغطي به عيوب فنايع
خالي من المعروف للسحت جماع
ويوافقه في هذا النهج الشاعر الحكيم حميدان الشويعر حينما يقول:
وبالتجار حراز بخيل
يرابي باغي زود التجارة
فنى عمره وهو ما ذيق زاده
وماله حازمة جود صراره
أما الشاعر المبدع بديوي الوقداني فقد تناول الموضوع بأسلوب مغاير حيث لامس ذلك بطريقة غير مباشرة مستخدماً لأسلوب النصح مدخلا لإيصال فكرته بطريقة سلسة وخالية من العنف اللغوي حيث يقول:
إن ملكت المال لا تغدي شحوح
أطعم الجيعان واكسي كل روح
الدبش والمال لابده يروح
والثنا والمجد جيل بعد جيل
وبالإضافة إلى ذلك فهذا الشاعر جبارة الصفار والذي لم يكن بعيداً عن هذا المنحى إلا أنه بالغ في تشاؤمه كما بالغ في نقده إلا أنه عاد ومارس الحكمة في البيت الثاني حيث يقول
رجل بلا مال له الموت راحة
ورجل بلا فضل غناته عار
لعل مال ما يمارى به العدى
ولا ينفع المضيوم ليته بار
ويبدو أن هذا النهج وذلك الطرح ليس مقصورا على فئة دون أخرى فهذا الشاعر محمد العبدالله القاضي وهو من الطبقة التي تجمع بين الثراء والمعرفة ومع ذلك لم يخرج عن هذا الإطار حينما مارس النقد في نفس المنهجية والطرح الذي درج عليه من سبقه ومن لحقه من الشعراء حينما قال:
المال كثره عار ألا ما بقى له
فضل ومعروف إلى نال ما نال
ومن جاد ساد ومن يشح بحلاله
ما درك مرامة لو صعد مصعد عال
ولكي نكون منصفين يجب ألا نغفل من له دور فاعل في مثل تلك الأعمال الخيرية من أمثال الدكتور (ناصر الرشيد) الذي يعتبر رمزا من رموز البذل والعطاء وعلامة فارقة في مجال العمل الخيري حيث دفع مئات الملايين في مثل تلك الأعمال التي لا يمكن إغفالها أو تجاوزها ولكنها اليد الواحدة التي لا تستطيع التصفيق.
وقفة:
ياليت يظهر عندما مثل بافيت
اللي نذر ثلثين من حر ماله
ولا كريم بالبذل مثل بل قيت
اللي مشى ممشاه وارخص حلاله
ما كان تلقى معدم ما ملك بيت
ولا الذي يطرد معوشة عياله
لا شك ما تنفع بها لوقت ياليت
واللي يرددها ترى من هباله