التريّث كلمة مهذبة تعني البطء؛ فالبطيء ريّث. جاء في لسان العرب لابن منظور: (الرَّيْثُ: الإِبْطاءُ؛ راثَ يَرِيثُ رَيْثاً: أَبْطَأَ؛ وتريَّثَ فلانٌ علينا أَي أَبطأَ؛ وقيل: كلُّ بَطيء رَيِّثٌ). ولم يكن العرب في ثقافتهم يحتفون بالزمن واستثماره كثيراً؛ فقد كانوا يصفون من يتخذ قراره بسرعة (بالعجول)، ومن يتأخر في اتخاذ قراره (بالمُتأني)؛ وفي أمثالهم: (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة). غير أن هناك فرقاً بين (العجلة) التي يكتنفها التهور والاندفاع في اتخاذ القرار دون دراسة وتحقق وتمحيص، وخصوصاً قراءة المآلات، وبين أن تتخذ القرار في الوقت المناسب؛ فالتأني، والإمعان في التريّث، قد يفوّت على الإنسان أن يتخذ قراره في الزمن الصحيح؛ فيصبح القرار خاطئاً لأن من اتخذه، اتخذه بعد فوات الأوان؛ كما لو أن نفس القرار اتخذه الشخص ذاته قبل فوات الأوان لكان ربما قراراً صحيحاً.
والسياسي المحنّك هو الذي يتخذ قراره في الوقت الصحيح؛ و(تحديد) الزمن المناسب لاتخاذ القرار هو ما يُميِّز (السياسي الذكي) من السياسي المندفع أو البطيء (المتريّث)؛ وكلاهما - أي المندفع والبطيء - يأتيان على النقيض تماماً من السياسي الذكي أو الحصيف؛ والذي يُميِّز هذا من ذاك عدة عوامل من أهمها في رأيي (متى) يتخذ السياسي قراراته.
الرئيس التونسي المخلوع - مثلاً -، وقبيل هربه بيوم أو يومين من بلده، اتخذ قرارات صحيحة، هي (تحديداً) ما كانت تطالب بها الثورة التي زلزلت الأرض من تحت أقدامه؛ غير أن هذه (القرارات) جاءت بعد أن سبق السيف العذل؛ فانتهى به (تطنيشه) و(عدم اكتراثه)، وربما (بطؤه)، أو (تريّثه)، في اتخاذ القرار الصحيح إلى العيش في المنفى. وعندما سُئلَ تشرشل عن سبب انتصار بريطانيا في الحرب العالمية الثانية في رأيه قال: (كنا نهتم ب»متى» تماماً مثلما كنا نهتم ب»كيف»)؛ فالتوقيت جزء لا يتجزأ من نجاح القرار في الغالب. وكان المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - في كل خطواته التوحيدية يُعنى عناية فائقة في أن يكون قراره في الوقت الصحيح. بل إن كل من عاصروه وكتبوا عنه يروون عنه أن لديه مَلكَةً عبقرية في توظيف الزمن ليكون معه وضد خصومه؛ وتاريخ التأسيس يشهد على ما أقول؛ ولعل هذا التميز في شخصيته - رحمه الله - من أهم أسباب تفوق هذا العبقري الفذ.
كل ما أريد أن أقوله في هذا المقال إن إيقاع العصر يحتِّم علينا أن نواكب سرعته ومقتضيات ديناميكيته؛ فالزمن لا يرحم؛ وعندما نؤجل كثيراً من القرارات، أو بلغة أخرى (نتريِّث) في اتخاذها، فقد تتراكم المشاكل حتى تصبح مثل كرة الثلج تكبر وتتضخم مع مرور الزمن، بحيث يصعب على صانع القرار حلها في نهاية المطاف، ويصعب في الوقت ذاته على المواطن تحمُّل تبعاتها وضغوطها. وأقرب مثال على ما أقول تأجيلنا، أو قل: تردُّدنا في إقرار (نظام الرهن العقاري)، لأسباب محض جدلية لا تسمن ولا تغني من جوع؛ مما جعل مشكلة السكن في المملكة تكاد تكون كالمشكلة الفلسطينية، الجميع يتحدث عنها وعن حلولها، وليس ثمَّة من يتحدَّث عن التطبيق. وإذا كانت كثير من الدول المجاورة اتخذت قرارات عاجلة لتطويق مشاكل الإنسان الحياتية، وخفض التكاليف المعيشية، بعيد (زلزال تونس)، فكل ما يطمح إليه المواطن السعودي أن تُحلَّ مشكلة سكناه بأية طريقة؛ فمن العيب - أيها السادة - أن يكون 70% من السعوديين لا يملكون سكناً وبلادهم تملك ربع احتياطي العالم من النفط.
إلى اللقاء.