ما زلت أذكر من دروس مادة علم الاجتماع.. مقولة شهيرة وجدناها في إرث الفلاسفة القدماء والذي تشارك أهل الأرض كلهم في تقاسمه وهذه المقولة هي: «الإنسان مدني بطبعه».. أي أنه لا يقوى العيش بمفرده بل يجذبه العيش بمدنية في ظل مدينة يشغلها آخرون معه وهو معهم يتقاسم الماء والهواء والكلأ فيؤثر ويتأثر ويستقبل ليعود فيرسل، ويمضون في تفاعل يصهر في قالب واحد ينشدون جميعهم به تحقيق المصالح المشتركة منها والفردية بطرق أقومها يكون أنفعها..
واستمرار التفاعل هذا يكون لبنة أساس في هذا النسيج المدني بكل مؤسساته المجتمعية التي يعد صمود الأولى هو ترياق حياة للأخرى وبناء على هذه المدنية فحسن الصحبة التي تربط زيداً بعبيد أو تقرب هنداً من أسماء لا تكون البتة بالتناطح من أجل بقاء الأول على حساب الآخر كما يحدث تحت شرعة الغاب. بل يكون بالتفاهم والتدارس لكل أمرٍ فيه يشتركون، ولعل أول ما يتشارك فيه أبناء الجنس الواحد هو اللسان وما يصوغ من ألفاظ وهذا عينه هو ما أريد أن أصب في بوتقته حرفي..
بمعنى أدق.. لغة الحوار التي نتداولها كأبناء مجتمع واحد أو مع أبناء مجتمعات أخرى تحتاج عند البعض إلى شيء من إعادة النظر - قلت البعض وهم إن شاء الله قلة - فلربما جمعتك الأقدار على مقاعد الانتظار في أي مكان بشخص لا تعرف اسمه ولا رسمه لكن أذنك أطربها حديثه ونفسك مالت إلى البحث عن هويته وماهيته.. وقد تصادف ذا مال وعيال وشهادة وطول باع لكنه لا يحسن سرد جملتين مليحتين دون المرور بسخرية أو تهكم أو نقد بناه على ماء.. فتعجب وتتعجب أما غير مقامه مقاله!!
ما أروع أن يكون لسانك والذي هو سفيرك عند أهل الأرض و أهل السماء.. قد دربته على اختيار أسلم الأقوال وأحسن الألفاظ وجهدت واجتهدت في ذلك تماماً كما يجهد عمال المناجم.. وما أروع أن تواصل بلا كلل ولا ملل تغسل عن حرفك شوائب الطرح أو الجرح..
يقول الله عزوجل آخذاً ميثاق بني إِسرائيل: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} وفسر الشيخ السعدي هذه الآية بأن القول الحسن يشمل السلام والبشاشة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتوافق معه من لفظٍ حسن. (بتصرف)
حقاً لا يجر القول السوء إلا سوءًا مثله.. فالناس قد تتأخر في رد الجميل لكنها في الغالب لا تنام قبل الكيل بمكيالين في حال القبيح.. والحق كل الحق أنه لا مكسب يرجى ولا عائد يرضى من وراء الفحش أو التفحش باللسان.. إن امرؤ صدر منه مثل ذاك قد دل على ضيق محيط عقله وقلة فكره وهبوط سقف علمه فوق رأسه..
كلنا ندري أن الزمان اليوم قد تغير وعدد العارفين فاق عدد الجاهلين والناس تتسابق في جني المعرفة وزيادة الثقافة وتصحيح البيان ودائماً ينصرف الجمهور للتصفيق لأحسن المتحدثين خطاباً.. وكلنا أيضاً ندري أن أخطر الأحوال حين يكون المنافق «عليم» اللسان وذي الحق فضاً.. حينها يختلط الحابل بالنابل ويشح مع الغسق النور..
دع عنك ما سلف وأرخ المسامع لما يلي: الله لم يخلق لكل فرد منا كوكباً منفرداً بل علم في علياه أن الخير كل الخير يحل حين نتعايش معاً في رقعة واحدة ولكلٍ منا لسان مشترك يكون الحي فينا تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه.. وكن على ثقة أن الآخرين لن يطلبوا منك أن تريق لهم دماءك ولا أن تتنازل لهم عن مائك وهواك ففاوضهم بالتي هي أحسن فأنت قد لا تعطيهم خبزاً أرادوه لكن قد تشبعهم جميلاً سمعوه..
وتذكر دوماً أن معاوية أضحت له شعرة يستاسها أصحاب العروش وهي التي قال في وصفها بيني وبين الناس شعرة إن شدوا أرخيتها وإن أرخوا شددتها.. وكذا تذكر أن ما نطقته من صالح أو طالح يوماً ما ستسمعه..