يبدو أن مدينة جدة ستظل موعودة باجتياح السيول مع كل زخة مطر في كل عام.. في كل أصقاع الأرض هطول المطر يبهج القلوب ويسعد الخواطر، ويريح الأنفس ويغسل الأدران قبل أن يغسل الجدران، إلا أن مدينة جدة فهي المدينة الوحيدة التي يفزع سكانها تراكم السحب السوداء، وترعبهم أضواء البرق وأصوات الرعد والصواعق، وتجبرهم هذه الظواهر الكونية على العودة إلى منازلهم إن كانوا خارجها، وتبقيهم بين جدرانها إن كانوا قاطنين فيها!!.
لقد أعادت الأمطار على جدة يوم الخميس 24-1-1432هـ ذكريات فاجعة جدة في حج عام 1430هـ، حيث استيقظ النائمون صباح ذلك الخميس على فحيح العواصف وتلبد السماء بغمامة سوداء، وعاد العاملون إلى منازلهم جراء السيل الذي أوشك على المداهمة.. كانت النتائج التي خلفتها سيول الخميس، كما أعلنها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، كالتالي: الوفيات أربع حالات، رجل وثلاثة أطفال في شرائع مكة، وتم إنقاذ 200 محتجز في مدينة جدة، وسقوط منازل بحي الصواعد وأم الخير، وتعرض رجل أمن لإصابة حرجة.. وصلت السيول إلى منسوب 50ملم، وسرعة الرياح وصلت إلى 60كلم في الساعة، تسببت الأمطار الغزيرة في توقف أعمال المشاريع، وشل الحركة المرورية، وتوقف الملاحة الجوية والبحرية، وتدنت مستويات الرؤية وتحول نهار جدة في ذلك اليوم إلى ليل كالح ومناخ عاصف، ولم يكن ليلاً هادئاً وحالماً، وإنما كان مليئاً بالأعاصير والعواصف الشديدة التي اقتلعت الأشجار من أحواضها، وألقت ببعض خزانات المياه العلوية إلى الأحواش والشوارع.. كل هذه بقدرة الله جلَّ وعلا ولا اعتراض على قضاء الله وقدره.
الجديد الإيجابي الذي صاحب سقوط هذه السيول هو، أن مراصدنا البيئية قد حققت نجاحاً ملموساً وواضحاً ومحدداً في تحذير السكان في منطقة مكة المكرمة من سقوط الأمطار قبل موعدها بيومين، وهذا عمل جيد ومتابعة حثيثة يشكرون عليها.. أما الجديد الإيجابي الآخر والذي لا يقل أهمية عن سابقه، فهو الجهد الجبار والعمل الناجح الذي قام به رجال الدفاع المدني، في عمليات الإنقاذ وانتشال الغرقى بكل احترافية، وبجميع وسائل الإنقاذ الممكنة سواء من السيارات المجهزة للإنقاذ الأرضي، أو القوارب المخصصة للإنقاذ في أماكن المستنقعات المائية والبحيرات التي تكونت من المطر، وكذلك المروحيات الطائرة التي تشكل المستوى الأعلى في الإنقاذ، حيث يتم استخدامها في حالات وأوضاع الاحتجاز الصعبة والتي لا تتمكن منها السيارات ولا القوارب.. إنه جهد مضن لرجال الدفاع المدني، الذين أبلوا بلاءً حسناً في أداء مهماتهم الإغاثية بكل اقتدار.. ولكن بالمقابل هناك قصوراً وفشلاً ذريعاً في تنفيذ مشاريع جديدة لم تتحمل الأمطار ولا حجم السيول لبضع ساعات، فما بالكم لو استمر المطر ليوم أو يومين أو تكرر لعدة مرات خلال الأسبوع أو الشهر، ماذا كان حال تلك المشاريع؟ ومن ضمنها نفق طريق الملك عبدالله في حي الشرفية الواقع بين طريق الملك فهد وطريق المدينة، حيث تحول إلى بحرية تكاد مياهها تلامس حافة الكوبري الواقع فوق النفق، وكذلك نفق الجامعة، ونفق الكورنيش، ونفق تقاطع شارع الأمير ماجد مع شارع حراء، التي امتلأت بالمياه وتحولت إلى بحيرات ومصائد غرق للمركبات، وكذلك بعض شوارع جدة التي حدثت فيها انهيارات للإسفلت وأحدثت حفراً عميقة سقطت فيها السيارات وأعاقت الحركة المرورية، كما حدث في تقاطع شارع فلسطين مع شارع الأمير متعب، كل هذا القصور مع الأسف لا يُقبل ولا يُبرر حدوثه خصوصاً وأن تلك المواقع، هي مواقع لمشاريع جديدة ومع ذلك أثبتت فشلها من أول اختبار!!.
ولعل شفافية وصراحة سمو الأمير خالد الفيصل في تصريحه للمؤتمر الصحفي عقب سقوط الأمطار، تعتبر إنذاراً غير مباشر من سموه للمعنيين عن المشاريع بضرورة الحرص على التنفيذ بالشكل الذي يتوافق مع الاعتمادات الكافية التي وفرتها الدولة، حيث قال سموه: (إذا كنا قلنا إن سيل العام قبل الماضي فاجأنا فلن نقول هذا العام فوجئنا). وأضاف سموه: (لن تنتهي مشاكل جدة مع سقوط السيول ما لم تنته أعمال شبكة الصرف الصحي التي تأخرت بما فيه الكفاية). نأمل أن تكون جدة في مأمن عن كوارث السيول مستقبلاً, حتى يبتهج سكانها بالمطر مثل بقية المدن الأخرى.