قال أبوعبدالرحمن: في معادلة أمين مهدي بين المؤسسات الدينية بمصر منذ 1996م مع قلَّتها عام 1952م تألَّم من كثرة المؤسسات الدينية؛ لأن سياق معادلاته كله في نصاب التألُّم من زيادة مؤسسات الخير وقلة مؤسسات الشر، ومقارناته كلها تدل على أن الرجل انسلخ من هُويَّته نشأة وكياناً وتاريخاً وإرثاً شرعياً معصوماً.. كأن هذا الصحفي يتكلم بلسان أسْبينوزا اليهودي أو كامو أو جولدزيهر، بل سياقه كله نسخة طبق الأصل من عربدة ذوي التثقيف الجنوبي كابن سلامة في « تخييل الأصول «، ولم يصل بعد إلى حبكة أركون الذي يتقن المغالطة بالتواءٍ ذكي لا يكاد ينتبه له مع عِظَم خطورته إلا قِلَّة من الأذكياء ذوي التخصص العلمي في فقه النصوص الشرعية وعلوم ذلك الفقه، مع أن إحصاءه غير دقيق ؛ فهذا العدد القليل من المؤسسات الدينية عندما كان سكان مصر ثمانية عشر مليوناً فقط، وهي خلفية وَرِثها عبدالناصر عمَّن قبله ؛ فتابعَ المسيرة مع التنمية.. وكَثْرةُ المؤسسات الدينية التي ذَكَرَها كانت قبل وفاة عبدالناصر بسبع سنوات، ولا يمكن أن تحدث هذه المؤسسات طفرة في ساعة، بل كان ذلك مهمة عبدالناصر بدافع من نفسه، ولأن ثورته قامت على أكتاف الإخوان المسلمين وهو شديد المجاملة لهم حتى تمكَّن من ضربهم.. وعبدالناصر متديِّن في شخصه ؛ وإنما حدث تجاوزه مجاملةً للجناح الشرقي الذي كان حَسَن الظن بدعمه، وحدث أيضاً تحت وَطْأةِ الطابور الخامس، ووطأةِ الحرص على كرسيِّ الزعامة التي فرضها بخطابته الساحرة، ونشاطِ الإعلام التضليلي أيام محمد عروق وأحمد سعيد ومشورة عبقري التحليل السياسي هيكل.. وزبدة القصد ههنا أن أُثير القارئ بأكثر من علامة استفهام حول تأفُّف أمين مهدي من كثرة المؤسسات الدينية.. ووَصْفُ الاشتراكية بالإسلامية بدأ بعبدالناصر نفسه ؛ فقد سمعتُ له خطبةً في حينها يستشهد فيها بقول أحمد شوقي:
الإشتراكيون أنت إمامهمْ
لولا دعاوى القوم والغُلَوَاءُ
قال ذلك في همزيته التي مدح فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغنَّتها الست بعنوان المطلع (وُلِدَ الهدى)، وكتبتُ (ال) (الإشتراكيون) بألف مهموزة لضرورة الوزن مع الإخلال بواجب الرسم، ثم أغدقت الصحافة والمؤلفون فيما بعد المقالات والكتب عن اشتراكية عبدالناصر أنها غير ماركسية، ووصوفوها بأنها إسلامية، بل بعضهم ألَّف عن أبي ذر رضي الله عنه كتاباً سمَّاه « أبوذر رائد الاشتراكية «، ولما لقي خورتشوف عبدالناصر مَطَّ شفته ؛ لأنه لم يجد الاشتراكية الماركسية، ومع أنه حصل تأميم للأملاك الفردية كقصور الباشوات ومزرعة أبورجيلة العالمية إلا أنها لم تكن ماركسية بالفعل ولا قريبةً منها، ولم يتخذ عبدالناصر هذه الاشتراكية عن قناعة، ولكنه ربط مصيره ومصير أمَّته بالجناح الماركسي مع ثقته بتحييد كثير من الدول عن طريق دول عدم الانحياز ؛ وَلِوَلَعي الشديد بتاريخ عبدالناصر الذي هو مصدر ثقافتي في حيوية الشباب ولاسيما منذ تنازل شكري القوتلي لعبدالناصر: كنت كثير التتبُّع لأبجديات السلوك والفكر الناصري، وتكوَّنت عندي قناعة لم أستطع التخلص منها في شيخوختي، وهي أن عبدالناصر يحلم بدولة إسلامية صالحة ما بقي آمناً على زعامته، وأن حلمَه حلمٌ خيالي في الجناح الماركسي الأممي بأنه سيرفع عنه كل الضغوط ليقيم دولة وَفْق خصوصية مصر ناسياً بالتأكيد أن الدين عند الماركسيين (أفيون الشعوب).. ورجَّح لي هذه القناعة أن عبدالناصر في تقلبات الأقلية بتحريش من الغرب (بالغين المعجمة) ذو سلوك خَيِّر مدة رئاسته ضد التجزئة التي استنبحتْ كلَّ الأقليات، وأحكم القبضة في ذلك، كما أن الماركسية في مصر لم تفرح بأي سند من عبدالناصر على الرغم من أن أحد زملائه من رجال الثورة هو خالد محيي الدين الماركسي، وقد حل حزبهم مع الأحزاب الأخرى، ولم يبقَ منهم سوى صوت مبحوح مغمور في مقالات أمثال أمين العالم وعبدالمنعم تُليمة..وباستثناء « رأس المال « لماركس لا تجد كتاباً ماركسياً في مصر آنذاك ؛ وإنما يَسْتَجْلِبُ الماركسيون المصريون مصادرهم من سوريا التي نشطت في نشر الكتب الماركسية مثل كتب لينين عن الفن في عشرة أجزاء، وهو من الكتب التي كنت ضنيناً بها وفُقِدَ مع ما فُقد من مكتبتي القديمة.. ومن التضليل القبيح العاري من أدنى شُمامة من الأخلاق تفسيره ضَعْف ريادة مصر الثقافية والفكرية بازدياد المؤسسات الدينية، ومثل هذا اللغو الآفك لا يجوز الصبر عليه؛ لهذا أقف عنده هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: أن كثرة المؤسسات الدينية بدأت بعبد الناصر عفا الله عنه وريادة مصر يومها في ذروة القمة.
والوقفة الثانية: أن مصر لن تفقد ريادتها وإن حصلت تعرُّجات ؛ لأنها ثِقَل الأمة العربية، والمملكة العربية السعودية تُكمِّل مسيرتها بقدَرها الروحي والمالي، ومع التعرُّجات فالريادة باقية في طلائع العلماء والمثقفين في البلاد العربية بل والإسلامية الذين كان أساتذتهم معمِّمين من مصر، ومصر تخلت عن ريادتها طوعاً في الأغنية والفيلم الذي كان تجرِبةً رخوة منغِّصة، وتهاوت قمم في الآداب كالشعر الرومانسي وإغواءات طه حسين وزكي مبارك، وهذا اللغو أشاح عنه المصريون منذ بدأوا في استرداد هويتهم، وهكذا نَحِيْبُ المدرسة الرومانسية التي نضجت ثمارها في مصر أشاحوا عن تغذيتها بقناعة فكرية؛ لأنه ليس في الوجود العربي اليوم ما يعطي راحة وأُنساً للتفاعل مع الأشجان الرومانسية الفردية، وتركوا عن قناعة النبرةَ الحماسية وهم صُنَّاعها لو أرادوا ؛ لأن الأمة خُدِّرَتْ بحماس لا يملكون أداته في مثل عنترية المطرب الوديع محمد عبدالوهاب (أيها العربي الأبي)، ولم تنتهِ الست من ترديد أغنيتها عن السودان من شعر شوقي الذي يقول فيه:
ولن نرتضي أن تُقَدَّ القناة
ويُبتَر من مصر سودانها
لم تنتهِ الست من هذه الأغنية حتى كانت مصرُ مصرَ في وقت قصير والسودانُ سوداناً، بل من العجب أن الغناء الغزلي تحوَّل إلى عنتريات خطابية؛ فقد سمعت ذات مرة عبدالحليم حافظ يغني (لا تكذبي) وقد احمرَّت عيناه، وتشنَّجت حركاته، وهدر صوته كأنه يُحمِّس الفرسان في المعركة مع أنني الخبير بقصة هذه القصيدة الأغنية؛ فهي حرقة وجدان يتعلق بمفردة من الجنس اللطيف، فكان من السفه توصيل هذا الأداء العاطفي الفردي بأداء الحماس العسكري الجماعي.. وأبناء الكنانة اليوم يرون أنه لا ريادة ألبتة في العالم العربي؛ لهذا جعلوا ريادتهم للكتاب الأكاديمي وهم يصارعون تيارات التجزئة مذهبياً وطائفياً، وهمُّهم استرداد الهوية العربية والإسلامية ؛ فإذا أوشك التقارب ووحدة الصف فالريادة لن تَعْدُوَهُم.
والوقفة الثالثة: أنه كما أسلفتُ لا راحة للعرب بعد هذا الذوبان في اصطناع نبرة حماسية كاذبة، أو تصفيق لمن يغني على ليلاه بإبداع فني أو أدبي.. ومشاركةُ الحواة في الصحافة إهانة للوقار الفكري والعلمي ؛ فهم في مجال استرداد الهوية بالتعلم والتعليم وتزكية الكتاب الأكاديمي؛ وبهذا يكون تلميع الحواة من أسباب ركود الريادة إلى حين.. وفي مداخلة أمين مهدي حبورُه بحصول تناوب الفكر الشمولي حسب تعبيره، وقد بيَّنت حقيقة الفكر الشمولي فيما سلف من التحشيات، ولكن العجب تحليله عناصر هذا الفكر الشمولي ؛ فمن تلك العناصر (الحرب الباردة) وليس في طليعة أو ذيل الدراسات الفكرية أي عطاء فكري أبدعته الحرب الباردة، وإنما الحرب الباردة سلوك مهزوم عنصرُ التفكيرِ فيه عملي مرهون بالحدث لا غير.. والعنصر الثاني ارتفاع حدة الصراع العربي الإسرائيلي ؛ فلو كُنَّا نملك قرارنا السياسي لكان القول في ذلك كالقول في العنصر الأول، وإنه لمن القبح بمكان عميق في الحضيض جَعْلُهُ زوالَ حِدَّة الصراع عنصراً من عناصر التفكير الشمولي وأن يَكون تناوباً يُفتَخَرُ به ؛ فهل سيُبقي لنا التاريخ لسان صدق في الآخرين وتصفية فلسطين من الفلسطينيين جارية على قدم وساق بشكل عنيف كَمَّاً وكيفاً بالقتل والهدم وتضييق الخناق بقطع الماء والكهرباء ومصادرة الأملاك، وهو عمل إجرامي مستمر لا يمكن أن يُبْقيَ للفلسطينيين باقية ولو في عقود قليلة من الزمن ما دام هذا هو واقعهم وواقع قوة العدو المتغطرسة وموت الضمير العالمي وأبجديات هرمجدُّون الخرافية التي آمن بها المتنفِّذون من أهل الكتاب الآخرين ؛ فهذا دليل على أن إبادة الفلسطينيين وأخذ كامل أرضهم شيئ مخطط له مبرمج له بمدة محدودة، وما عدا ذلك من تحليلات سياسية ومؤتمرات حماسية أو تعاطفية إنما هو نفخ في الرماد ومزج بالريح.. وارتفاع [بمعنى زوال] حدة الصراع يعني انسحاب العرب والمسلمين من واجبهم الديني والتاريخي والقومي، ولو اتَّحدَ الصف العربي وحده من غير الدول الإسلامية لما غلبهم غالب مهما كانت القوة ؛ لأنهم في سُرَّة الأرض، ويملكون شرايين الإستراتيجية الجغرافية في العالم، ويملكون كل الموارد الطبيعية التي تقوم عليها القوة المادية الغاشمة ؛ وحينئذ لا يكون للعدو استراحة ولا نفوذ من أرضهم، وهم أهل المصابرة في الحروب الطويلة المدى، ومواردهم الطبيعية كافيتهم بإذن الله.. وزوالُ حِدَّةِ الصراع العربي الإسرائيلي ليس طموحاً عربياً ناشئاً عن فكر ورجولة، ولكنه إكراه وقع على أحداثٍ اتَّصف مصطلو نارها بالجبن ؛ وببركة ارتفاع الحدة عُزلت مصر وسوريا عن خط النار، ودُمِّرَتْ العراق، وشُغِل إخوانٌ لنا على السواحل بشاعر المليون والمغالاة في أقيام الحيوانات والطيور كالتيوس والحمام، وبقيت مملكتنا العربية السعودية تأسو الجراح برفدها المالي على مستوى الدولة والشعب، وهي تحاول لَمَّ شتاتٍ من المحال أن يلتحم والمقاصد على ما نرى، وإن العجب ليبلغ مني مبلغ الوسواس الذي يلازم الإنسان في فراشه كيف يتحسَّر هذا الصحفي على كثرة الأفلام ودور السينما أيام الفيلم الأسود ويأْسَى على قلة الأفلام ودور السينما في هذا العهد الذي عَمُرَتْ ساحته الصحفية بمثل أمين مهدي نفسه؟!.. وهذا أيضاً يحتاج إلى وقفات:
الوقفة الأولى: أن الأفلام في عهد الفيلم الأسود كانت باباً وسيعاً للانحلال سوى بضعة أفلام تمسَّكت بشيئ من الحياء، ولكنها على الجملة آسرة باللمحة الفكرية والحصيلة الثقافية والنكتة البارعة والأداء العبقري، فترى الممثل في واقع طبيعي لا كُلْفة فيه ولا يُشْعِر أنه يؤدي دوراً تمثيلياً، والمشاهِد إن وقع فيما فوق اللمم لم يعدم تربية جمالية حسية مفرطة الشفافية، ولم يعدم طرفة وثقافة وفكرة وعبرة.. وأفلام اليوم - ونحمد الله على قلَّتِها - أفلام أصباغ وفجاجة وتبذُّل ولهجات محلية قبيحة، وأداء أقبح، وأشكال آدمية أقبح وأقبح، والمُشاهِد إذا رأى هذه النماذج السيئة، وظن أنها الفنُّ الذي يُذْكَر: فإنه سيعلن التوبة عن الفن من حينه !.. ثم إنك تجد في الفن العربي التمثيلي القديم قامات وهامات ثقافية بارزة مثل يوسف وهبي والريحاني ومدبولي، ثم تجد في أفلام الأصباغ هيَّان بن بيَّان وفقعة القاع ممن لا قدم لهم ولا ذكر في أدب أو ثقافة !!.
والوقفة الثانية: اتضح أن مهانة وقلة أفلام الأصباغ بسبب تلاشي الموهبة، والمستجدات المحرقة على أرض الوطن التي لا تسمح براحة للتعايش مع الفن ؛ فكيف يجعل المسؤولية على أجهزة الرقابة؟.. فهل الرقابة حرمتهم من الموهبة ذكاءً وعلماً، وهل حرمتهم من الحس الفني؟.. وهل في حصيلة الأفلام في عهد الأصباغ التي لا تتجاوز الستة أفلام فيلمٌ واحد ذو خطر فناً أو فكراً أو ثقافة صادرته أجهزة الرقابة ؛ فلماذا خلط الأوراق؟.
والوقفة الثالثة: لم أجد في سياق هذا الصحفي شيئاً من الهموم التي تتعلق بحرية التعبير إلا ما هو كالفَضْلة في عُرف النحويين، وهو ترف الفن والإبداع الأدبي الذي هو على هامش النشاط الإنساني ؛ استرواحاً لعمل جاد.. أفلا يكون الهم الأكبر لهذا الصحفي المرتبط بحرية الفكر (الذي هو حرية التعبير بالمفهوم الديموقراطي) أن يطرح للبحث الجاد ما هو أمس بكيان الأمة من ترف الفن، مع درس عوامل مؤذية حقَّقت قتل الوجود العربي المعتدِّ به ككارثة ارتفاع حدة الصراع العربي الإسرائيلي؟.. ومن مقومات الوجود العربي إعداد القوة والضروريات والكماليات إنتاجاً لا توريداً، فهل لأجهزة الرقابة مجال للمصادرة في هذا وهو فوق الترف الفني والأدبي؟.. ولا أملُّ من طرح الأسئلة ؛ فأسأل مرةً ومراتٍ عن حَجْر العالم القوي على العالم العربي أن يتعلم إعداد القوة، وما سُمح به من العلم الضروري فستظل فاعليته مرهونة بالاستيراد بأبهظ الأثمان كالطب ؛ لأن دولة الطبيب عاجزة عن تصنيع أجهزته ؛ فلماذا لا يصرف تعب قلمه وجهد فكره - إن كان عنده فكر - إلى تحريك العقول لالتماس أسبابٍ تُخرجنا من هذا المأزق ولو على أمد بعيد؟.. وفي ختام هذه الوقفة أمتعكم بهذا السؤال الحرج: هل يملك المُسْتَلَبُ في أرضه المقهورُ في قراره الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أيَّ إرادة ينظِّر بها فلسفة الديموقراطية، أو يفرغ معها للابتسام مع تجليات أدبية أو فنية؟.. إن من قَدَر هذا الصحفي أن يسلِّم بطاقة هُويته لأهل بلده ويرحل إلى عوالم القوة المادية التي تستقبل المهاجرين، ولا تحيف على أحد في موهبته؛ فعالم الذرة والطبيب له مجال عمله، والعامل والفارغ إلا من الفرقعة الصحفية له مجال عمله كغسل الصحون ومسح المناضد في المطاعم، أو يكون قدره أن يستردَّ هُويَّته ذات العقل المحاكِم بصيغة اسم الفاعل، وذات الزكاء (بالزاي) في الإرث الديني؛ وذلك هو مفخرة التاريخ الجهوري التجريبي، وفي الأولى يكتب سفر الخروج، وفي الثانية يسعى إلى فتح باب الدخول.
ومن عناصر العقل الشمولي عنده جائزة نوبل التي نالها نجيب محفوظ، وهذا لا دلالة فيه على العقل الشمولي ولا ارتباط له به إلا كدلالة قوله تعالى:{وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [سورة الضحى1-2] على حرمة الربا مثلاً !!.. فلماذا الاستخفاف بالعقول بهذه السذاجة والفجاجة.. وسواء أَأُعطي نجيب محفوظ الجائزة من خارج عشه كجائزة نوبل، أو أُعطي أدسم منها في البلاد العربية فهو ذو موهبة فنية متميزة في رواياته وقصصه فيما أبدعه من الأدب الروائي الواقعي أو ما احتذاه من الأدب الوافد.. هو هكذا في موهبته سواء نال جائزة أم لم ينل، إلا أن هذا الإناءَ الذهبيَّ حوى قاذورات في بعض الأحوال تمسُّ الكيان وأهمه الدين، فهل يشفع لعبقريته الفنية أن نستقبل قاذوراته التي تزكم الأنف فيكون الغثيان ثم القيئ؟.. إن قال نعم، واستباح التجديف فلا مكان له في قلوب أفراد الأمة التي تنتمي إلى كيان واحد.. وإن قال: (لا) فإرثنا الديني وتركتنا الكيانية ليست مجحفة في حالات عدم قبول عملٍ ما؛ فإذا أُريد من مؤسسات الدولة نشر عمل ما أو تسهيل المواصلات لتسويقه وإن استوفيت الأجور: فإن من حقها أن لا تنشر ولا تُسهِّل إلا ما رضيته الأمة، وأعظم مصادر الرضا الدين المعصوم، ولكنها عند الرفض تفاتح المؤلف لعله يتراجع ويُعدِّل، أو ترفض العمل؛ فهاهنا لا مصادرة؛ وإنما ذلك تخلٍّ عن الالتزام لما لايجوز الالتزام له؛ فإذا كانت هذه هي حالة النشر فمن باب أولى أن لا تجعل الدولة من مواد مؤسساتها التعليمية مجالاً لأعمال تمَّ طبعها وفيها المحذور الذي رفضت نشر الكتاب من أجله، وعجبي من هذا الصحفي أن يجعل حَذْفَ أجهزة التعليم بعض الكتب من برامجها التعليمية معدوداً من المصادرة ؛ فلا احتمال لهذا إلا بأحد أمرين: أحدهما أن يكون متصوراً الحرية المطلقة، وهذا محال تصوره بمبدإ الهوية كإحالة النقيضين اجتماعاً وافتراقاً.. وثانيهما وهو الذي لا مفك منه أنه متحرر من هوية العربي المسلم كما يجب أن يكون؛ ليكون - كما هو حالهم الآن - عبداً أسيراً غارقاً غَرَق العُوْمة (غير العاقل) في حرية الكفر والإباحية.. وهناك نوع آخر من التعامل مع ما يؤذي الأمة - وهو من المصادرة وجوداً لا حكماً -، وهو تنقية أرضية المجتمع مِن الأوشاب ؛ فلا يُسْمح بانتشارها بين الأمة.. وهذه المصادرة وجوداً قائمة على المشروعية الفكرية والكيانية، وهذه المصادرة لحماية أمن الأمة، وحماية فاعلية عيونها الساهرة إذا دُسَّ في بلادها في الخفاء ما لا ترضاه، وهذا يصدق على دسِّ كتب لم تفسح من أجهزة الرقابة؛ فَرَدُّها إلى حيث أتت ومَنْعُ البلاد منها مُصادرةٌ مشروعة ؛ لأن دَسَّها افتيات على حق الأمة المُمثَّل في رقابة أجهزتها الحكومية وتَوَجُّسِ رموزها ذات الاختصاص، ومنها أن توجد الكتب غير المفسوحة تُسوَّق خُفية بعد منع الرقابة من دخولها ؛ فهذه تُصادر، وليس سلوك المصادرة اعتداء، لأنه جَزاء بحق؛ ولأن جهة المصادرة هي المسؤولة عن الأمن الفكري الوطني لأمَّتها، بل لها حق فرض العقوبة والغرامة والمرافعة.. ولا ريب أن الرقيب قد يُخطئ عن جهل، وقد يتعسَّف في استعمال الحق عمداً ؛ فكل هذا وارد على الرغم من التحرِّي الشديد عن أهلية وأمانة من يشارك في مسؤولية الرقابة، وهذا له إصلاح لا يقتضي إلغاء الرقابة التي هي بُنية في حياة الأمم.. والعمل المردود رقابياً يكون ببلاغ ينتهي إلى صاحب الكتاب مصحوباً بالملاحظات، وهذا يقتضي بادئ ذي بَدْإٍ ألا يُسوَّق العمل غير المفسوح، ويقتضي فتحَ باب المراجعة والمحاورة والإحالةَ إلى أكثر من مراقب ويكون مع الكتاب ملاحظات المراقب السابق واعتراض صاحب الكتاب؛ فيُحسم الأمر بالتحكيم الإداري كما تنتهي القضايا بالبتِّ القضائي بعداكتمال توثيقه استئنافاً وتمييزاً ؛ فظاهر الحكم مُنْهٍ للنزاع، وصواب الحكم في الباطن أمره إلى الله كالحكم في الدماء والفروج والأموال.. وأما نقد كتابٍ ما أو تقريظه والدفاع عنه فذلك أمانة يجب تأديتها من ذوي الأهلية سواء فسح الكتاب أو لم يفسح، وسواء نشر في الداخل أو في الخارج، وسواء أكان تراثياً أم كان معاصراً.. ومن كان مواطناً إذا جاء بتجديف أو إباحية فهو خاضع للمقاضاة الشرعية بأحكام الشرع المعصومة التي ليس فيها إلا مراد الخالق سبحانه المُنَزَّه عن أن يكون استجابة لهوى أحد، والشرع قبل العقوبة يُعطي فرصة للمراجعة والإنابة، وأما الحدود فيقيمها، وأما الحقوق للآخرين فيقتصُّها.. وهذه الحرية التي يُطالب بها الحُواة متصوَّرٌ وجودها بتوسُّعٍ في عالم لا يؤمن بدين إلا الدين البشري الوضعي كالماركسية فهي ترحِّب بالإلحاد والفجور، ويؤذيها كتب الإيمان والعبودية لله، ولكن تظل الحرية مطوَّقة بحاجز من المصادرة والإكراه والعقوبات إذا نالت حريةُ الكاتبِ الأفكارَ الماركسيةَ التي يرون قدسيتها.. ولم يذكر هذا الصحفي المظلَّة التي أخفت تدحرجَ العرب في العُقْم، وإنما ذكر سبب العقم الذي وصفه بالفيروسات المركزية في الثقافة والإعلام في العالم العربي.. ألا فليعلم أن المركزية حقيقة وجودية حتمية عند كل الأمم وكل الملل وكل النحل، ولكن هذه المركزية تتسع لمدى كثرة ما هو واجب أو محرم، وتضيق بمدى ما هو مباح.. وتوزيع الصلاحيات لا يكون إلا بمقتضٍ من الكفاءة والأمانة في تسلسل الهرم القيادي، والأمر السري والخطير وغير المتفق عليه تحكمه المركزية بالحتمية الوجودية والفكرية ؛ فإذا كانت دولة غربية (بالغين المعجمة) لا تضيق بالفكر الإباحي والتجديفي فلا يعني ذلك أنها غير مركزية، بل هي في غاية المركزية في حماية أمنها الفكري، وأمن رعيتها وقادتها عامة، وحماية منطقها التحليلي النفعي، مع المركزية الصارمة في قضاياها السرية.. والمركزية في مفهومها الأشمل ليست محصورة في تولِّي المسؤولِ كلَّ صغيرةٍ وكبيرة ؛ فلا يَسمح لأحد بالنظر فيها إلا بعد مرورها عليه ؛ ليوجِّه البتَّ فيها، ولتحمل موافقته وتوجيهه ؛ وإنما تكون المركزية أيضاً في توزيع الصلاحيات لأداء ما هو متفق عليه بوضوح ؛ فالقيادي ذو الصلاحية يظل تحت طائلة المراقبة إنْ أخلَّ بما هو متفق عليه بصراحة، وهذا العمل مركزي وإن تعدد المسؤولون ذوو الصلاحيات الموزَّعة عليهم ؛ لأنه تنفيذ لرأي واحد مآله إلى المسؤول الأول ذي المركزية ؛ وعلى هذا يكون خلاف المركزية بالمعنى الأعم حريةُ الرأيِ والإجراء لكل مسؤولٍ متفرِّع عن مسؤول أكبر؛ والمطالبة بمثل هذه الحرية خلل في الفكر وقصور في التجربة، بل الأزكى من ذلك أن يكون المسؤول الأول على مركزيته وتكون حرية الرأي للقياديين المرؤوسيين مطروحةً للدراسة الجماعية بحضور المسؤول الأول أو برفع الآراء الجماعية إليه، وهذا صورة من صور الشورى في الإسلام.. وعيب المركزية في الدراسة والبتِّ محصور في الإبطاء في إنجاز مصالح الأمة، ومصادرة الرأي الجماعي بالرأي الفردي.. إلا أن المركزية الضرورية المحمودة تقتضي إعطاء ذوي الاختصاصات حريتهم في الدراسة والاقتراح ؛ ليكون الرأي جماعياً، وليكون البت سريعاً، ثم إذا رأى القيادي المركزي من واقع ممارساته الشمولية أن الاقتراح شيئ ليس في الإجراءات الروتينية المتفق عليها: فإنه يشرك كل ذي تخصُّصٍ في جلسة أو جلستين، ويكون صوتُه مُرَجِّحاً إذا اختلفت الأصوات ؛ لأن ممارسته الشمولية، وخبرته بالوقائع والتعليمات تؤهِّله لذلك.. فإن تعسَّف، وصادر الآراء برأيه الفردي فإنه يتحمَّل مسؤوليته أمام الله ثم أمام الأمة، ويُحاسب مستقبَلاً على النتائج السيئة عقوبة تستدعي إنذاره، أو صرفه إلى مَنْصَبٍ أقل خطراً، أو إقالته، أو معاقبته مع الإقالة، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.