لم يعد إنجاز هذه الدولة في حقل من الحقول، أو إخفاق تلك، قضية انطباعية، تعتمد على مجرد رأي أو (إشادة) لا تسندها المعلومة، ويعوزها في كثير من الأحيان الدليل كما كان الأمر في الماضي، فقد دخلت الدول، والخدمات في هذه الدول، إلى ما يشبه التنافس أو السباق فيما بينها على (من هو الأفضل)؛ وقامت عدة منظمات، وأهمها منظمات تابعة للأمم المتحدة، بإجراء دراسات ومقارنات وقياسات بين هذه الدول، والخدمات التي تقدمها أجهزتها الحكومية، والمراكز التراتبية التي تحتلها الدول في هذه الخدمات، الأمر الذي يجعل (الترتيب) الذي تطرحه هذه المنظمات مؤشراً (قياسياً) هاماً على النجاح، والقَدر الذي يُمثله هذا النجاح قياساً بهذه الخدمة في الدول الأخرى.
المملكة جاءت في المركز الأول في سرعة تسجيل الملكية العقارية، وهذه الشهادة صادرة من البنك الدولي، والبنك الدولي هو أحد الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة التي تعنى بالتنمية في العالم. أي أن هذه الشهادة ليست من منظمة تكتنف تقاريرها وشهاداتها الشكوك، كبعض التقارير التي تصدر من بعض مؤسسات الرّصد الخاصة، التي تفتقر تقاريرها في الغالب إلى الصدقية، وإنما من (منظمة أممية) تعتبر شهادتها في منأى عن أي شكوك؛ سيما وأن حصول المملكة ممثلة في وزارة العدل على هذه الصَّدارة الدولية جاء بعد عدة إجراءات فعلية واختبارية أجراها مندوبو البنك على أرض الواقع، بعد الانطلاقة الفعلية لمشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء؛ والجانب التوثيقي جزءٌ رئيس من هذا المشروع، الأمر الذي يجعل هذا (السبق) مؤشراً هاماً على نجاح هذا المشروع وهو مازال في بداياته.
أن تسبق في الترتيب دولاً ذات خبرة طويلة وعريقة في هذه المجالات، فهذا بلا شك إنجاز حضاري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، غير أن الإنجاز الأهم يبقى في الإصرار على الصدارة؛ فكما يقولون: ليس الإنجاز أن تصل إلى القمة وإنما أن تظل محافظاً على البقاء في القمة.. الدكتور محمد العيسى وزير العدل يبدو أنه مدرك تماماً لهذه الحقيقة؛ هذا ما نفهمه من قوله تعليقاً على هذا الإنجاز العالمي: (لا أخفيكم أن الوزارة ماضية في اختصار (المزيد) من الوقت في نقل الملكية، ولن تتوانى مطلقاً في التحقق من الصكوك، ولن يَصدر منا بعون الله صك واحد إلا وهو مكتمل الإجراءات الشرعية والنظامية، على هذا عاهدنا الله سبحانه، ثم عاهدنا ولاة الأمر وفقهم الله ولن يكون ثمة صك إلا وهو يحمل شرف الوصف الشرعي، وشرف شعار العدالة).. وهذا يعني أن سرعة تسجيل الملكية العقارية ستكون غداً أفضل مما هي عليه اليوم، فمازال - كما فهمت من حديث معاليه - هناك إمكانية لاختصار الوقت الذي حققنا به هذا الإنجاز أكثر؛ أي أن المسؤولين في وزارة العدل لن يكتفوا بما تم إنجازه وإنما سيكون التنافس أو التسابق ليس مع الآخر مستقبلاً، وإنما مع الذات، فما حققته اليوم يجب أن تعمل بكل جد وإخلاص على تجاوزه في الغد؛ وهذه معادلة التفوق والمتفوقين دائماً.
إنني من هذا المنبر أود أن أقدم التهاني لكل من ساهم في هذا الإنجاز العالمي الرفيع، ابتداء من وزير العدل وانتهاء بأصغر موظف بذل وأخلص وتفانى في عمله حتى حققنا مثل هذا الإنجاز الغالي، فقد كان لجهودهم وعملهم وإبداعاتهم دوراً مركزياً في تحقيقنا لهذه الصدارة الدولية، كما أنها من زاوية أخرى تشير إلى تفوق الإنسان السعودي متى ما أعطي الفرصة، والأهم الثقة، لأن يُبدع، وفي الوقت ذاته لأن يتحرر من عقبة (التكلس والجمود) التي دائماً ما تحول بيننا وبين مواكبة الركب المتحضر عالمياً. إلى اللقاء.