تدور الشمس حول مجرتها الأم وحول نفسها، وتدور الكواكب حول شمسها وحول نفسها، وهكذا يدور كل شيء حول شيء أقوى منه وحول نفسه أيضا وصولاً إلى نواة الذرة ومكوناتها الدقيقة المسماة بالكواركات. إذن هناك مركزية كبرى أسميها اصطلاحا المركزية السيادية ومركزية صغرى هي المركزية النسبية. هذه الازدواجية في الانتظام تحكم كل نظام كوني. هذا النظام الإلهي في الكون ينطبق أيضا على النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ما يهمني هنا هو المركزية الإدارية في الدولة، أي دولة، وما هو نصيب المركزية السيادية والمركزية النسبية في تسيير شؤونها الوطنية.
في عصرنا الحديث، أي عصر الانفجار المعرفي تبلورت عدة مفاهيم للحدود النافعة والضارة في ارتباط المناطق والمحافظات والمؤسسات والإدارات بالمركز الأساس. الارتباط المطلق بالحكومة المتواجدة في عاصمة الدولة، بحيث تكون هي المرجعية الوحيدة في كل شيء من المركز حتى أبعد الأطراف لإدارة كافة الشؤون الوطنية، السيادية منها وغير السيادية، هذا هو النظام السائد المعتمد في الإدارة المركزية. هناك أيضا أنظمة يحتفظ فيها المركز المتواجد في عاصمة الدولة بالشؤون السيادية (الأمن الداخلي والخارجي والسياسة الخارجية) بالكامل ويترك الكثير من السياسات التنموية والتعليمية والبلدية والثقافية للكواكب والكويكبات الدائرة في منظومته الجغرافية والسياسية. هناك ايضا نمط ثالث لا يتواجد عادة إلا في الدول ذات التركيبات العرقية المتعددة، حيث تعطى الأفضلية للنظام الفيدرالي أو الكونفيدرالي حسب ما ترجحه المصلحة العامة.
عندما نتمعن في دول العالم أمامنا على الخارطة الحالية ونتعرف على نوع الإدارة فيها ماذا نستنتج؟. أرجو أن يقوم القارئ بنفسه بهذا العمل ولو على بعض الدول عشوائيا إن لم يكن جميعها. سوف يلاحظ أن القدرة التنافسية الاقتصادية الداخلية على مستوى المناطق والمحافظات، والخارجية على مستوى العالم الخارجي، ومستوى المعيشة ومؤشر التنمية السنوي وتصاعد وتيرة البحث العلمي كلها تكون أكثر وأسرع في الدول التي يحتفظ بها بالحقائب السيادية للحكومة في العاصمة ويترك التصرف في الشؤون الأخرى للمحافظات والمقاطعات إلى آخر التسلسل الإداري. مهمة المتابعة والمحاسبة هي بالطبع للمركز الذي يحتفظ بأجهزته الرقابية في الأطراف بحيث لا تخضع لأي سلطة طرفية وتكون مرجعيتها الوحيدة هي الحكومة المركزية في عاصمة الدولة.
العكس صحيح أيضاً: كل ما صارت الأموركلها تدار من المركز يصبح المحرك لكل المسارات واحدا وضخما وفي مكان واحد بينما الأطراف مجرد تروس تنتظر الطاقة الحركية من هناك. عندها تصبح الحركة أثقل وأبطأ والتنافسية بين قطاعات الداخل مع بعضها ومع العالم الخارجي أقل كفاءة لأنها أصبحت تعيش على مصدر الطاقة المسحوب من خزان الدولة المركزي، مما يسهل لها تبرير إخفاقاتها التنموية بالبيروقراطية المركزية.