في اتصال هاتفي دار بيني وبين الدكتور محمد البيشاري رئيس الفيدرالية المسلمة في فرنسا وأمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي، روى لي قصة كانت تحمل الكثير من المدلولات، والكثير من علامات الاستفهام، وهي «أن امرأة فرنسية مسيحية
تبرعت بقطعة أرض لبناء مسجد، واشترطت أن تحضر أول صلاة تُقام فيه، وكانت صلاة جمعة، وإذا بمن يعتلي المنبر يقول بصوته الذي زاد من دقة سماعه الميكروفون «اللهم اهلك اليهود والنصارى»، وعلّق البيشاري على أن هؤلاء الدعاة ينقصهم الكثير من التفاصيل عن الدين الإسلامي الذي من المفترض أن يقوموا بالدعوة إليه، وكان يقصد تجديد لغة الخطاب الديني ونبرته.
أكَّد الأمر نفسه المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية «كير» نهاد عوض في حديثه لي أيضاً حين قام راعي كنيسة أمريكي بالتهديد بحرق القرآن، وأن «كير» قامت باحتواء الأمر، وإقناعه بالعدول عن هذه الفكرة، وتوصية مسلمي أمريكا بضبط النفس، لأن الهدف من هذا هو إثارة العصبية الدينية وهي أقوى العصبيات التي من أجلها قد يضحي الإنسان بحياته لأنه مؤمن أنه ساعتها سيعد شهيداً، لأنه يدافع عن دينه، والأمر نفسه مشترك سواء عند المسلمين أو المسيحيين.
اشترك البيشاري وعوض في التأكيد على ضرورة تجديد لغة ونبرة الخطاب سواء عند المسلمين أو المسيحيين، وزاد عوض في حديث هاتفي آخر دار بيني وبينه أن مسيحيي أمريكا لديهم قوة الحجة المكتسبة من الدراسة بشكل عام، ودراسة فن الحوار من جهة أخرى، ويبدو ذلك جلياً في مؤتمرات الحوار بين أتباع الأديان.
تجديد لغة ونبرة الخطاب، مصطلحات تزعج دائماً أصحاب العقول الجامدة، الذين لا يرون، ولا يدركون، والإدراك مرحلة أقرب من الرؤية البصرية أعمق وأدق تؤكّد أن الحياة تتغيّر وتتحوّل وتتبدل، ويصاحب كل هذا تطور على جميع مستويات التلقي، والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث والأقوال وحتى الحكايات المأخوذة عن بعض رجال ونساء الماضي، كلها للتدليل على وجهة نظر المتبني لفكرة معينة ضد أخرى، بهدف ترسيخها عند متلقيها.
والخطاب الدعوي سواء أكان إسلامياً أم مسيحياً، وهذا ما أريد التركيز عليه يحتاج إلى إعادة بناء، وإعادة ضخ المزيد من الأفكار والرؤى التنويرية التي تؤكّد على المبدأ القرآني التقريري في قوله تعالى:?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?، على الرغم من أن هذا المبدأ تم تأكيده مع الكافرين «حسب التعبير القرآني»، هؤلاء الكافرون «شرعاً» كل من لا يؤمن بالإسلام، لكن في المقابل المسلم «كافر» بكل دين غير الإسلام، - عدا الكتب السماوية - أيضاً من مبدأ ديني، قرآني بحت ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ?، في المقابل أيضاً تجد في دور العبادة المسيحية تحذيراً دائماً من المسلمين الذين يريدون القضاء على المسيحية بإذابتنا في دينهم «الإسلام»، ولهذا يجب الحفاظ على الدين المعتنق وعدم التفكير مجرد التفكير في البحث عن طرق ملائمة لجيل ولد على ثورة الاتصالات والمجادلات الدينية على الإنترنت، حتى تشوّهت ملامح هذا الجيل «ثقافياً دينياً».
التعصب لم يولّد إلا حالات الاحتقان التي نراها ونشهد تبعاتها أمام عيوننا، ويعود الشريط الأحمر الدامي الذي يظهر أسفل القنوات الإخبارية إلى الظهور في المشهد، ليؤكد ارتفاع عدد ضحايا الاحتقان في عدد من المجتمعات العربية التي تشهد الآن المرور بمعترك مفصلي في تاريخها، ورغم أن الضغوط المحيطة أكثر بكثير من حصرها في مقال، إلا أن الأمل دائماً يولد من رحم اليأس.
المطلوب تجديد لغة الخطاب ونبرته التي يتولى أمرها من فوق بعض المنابر في بعض الدول العربية والإسلامية رجال إقصائيون، لا يرون بعيونهم ولا بعقولهم إلا أنفسهم، بصورة فجّة لإقصاء «الآخر» بكل ما يحمله المصطلح من مضامين.