تذكر بعض كتب التراث ويتناقل كتاب الاقتصاد أن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصدر قراره القاضي بتكليف أحد الصحابة والياً على إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، ولما قرر هذا الوالي الجديد السفر إلى مقر عمله خرج معه أمير المؤمنين إلى مشارف المدينة، ظن هذا الصحابي الجليل أن عمر خرج معه ليودعه، فهو من هو في ميزان نفسه اليوم، ولكن ما إن خلفا رضي الله عنهما طيبة الطيبة وراء ظهريهما حتى التفت إليه الفارق قائلاً له: (ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ قال: أقطع يده. قال عمر: وأنا إن جاءني منهم جائعاً أو عاطلاً، قطعت يدك. يا هذا إن الله استخلفنا على عباده، لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم. فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها. يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية).
ركز هذا النص -إن صحة نسبته لعمر- على جانب مهم من جوانب الوظيفة الاقتصادية للدولة، فهو يؤسس بكل وضوح لمبدأ العدالة في توفير الفرص الوظيفية بالمجتمع، وضمان حدد الكفاية المعيشية لجميع أفراد الشعب بلا استثناء، وفي الوقت ذاته يلقي هذا القول الواضح والصريح تبعات البطالة على عاتق السلطة السياسية أولاً، كما أنه يربط بين هذا الداء العضال في المجتمعات من جانب والجريمة بكل صورها وبجميع ألوانها من جانب آخر، ولذا فمن مصلحة السياسي أن تنشغل الجماهير بما يعود عليها وعلى أوطانها بالتقدم والرخاء الاقتصادي والأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي وأن تشغل بالطاعة وإلا ستكون غالباً معاول هدم وفساد وإفساد في البلاد وعلى العباد، والفرد عندما ينخرط في منظومة الجماهير التي تماثله في الهم وتشاطره الغم لا يعود هو نفسه في حالتها الفردية، بل يكتسب سمات جديدة تتلاشى معها الشخصية الواعية ويهيمن عليه اللاوعي، ويتوجه جمع الأفراد بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار إلى الأفعال والممارسات التي قد تكون إيجابية أو أنها تكون سلبية وللأسف الشديد، وربما كانت الثورة الغاضبة التي تلحق الأضرار في الممتلكات وتزهق الأرواح وتدمر وتفسد هي الشيء المتوقع ممن وصلوا إلى تساوي الحياتين لديهم، إذ إن سرعة الانفعال والنزق والعجز عن المحاكمة العقلية وانعدام الرأي الشخصي والروح النقدية والمبالغة في العواطف والمشاعر و.. قواسم مشتركة بين الأفراد حين يكونون ما يسمى في اللغة السياسية «جماهير» ويختارون الشوارع والميادين لمنازلة الحكام والمسئولين وتوجيه التهم لهم ونقدهم والتشنيع بصنيعهم لحظة من التاريخ.
إنني أعتقد أن ما جرى وما زال واقعاً في دولة تونس الخضراء هو ردة فعل غاضبة إزاء سلوك جائر وقهر ظالم كان جاثماً على صدور الملايين منذ سنوات وما زال، وهذه الحالة بكل تفاصيلها وبجميع ملابساتها ليست حكراً على هذا البلد العربي الذي كان يرضخ تحت وطأة الديكتاتورية المقيتة، بل إن هناك عدداً من الدول العربية تشابهه في الظروف وتوافقه في النهج السياسي المشين، وكما يعلم القارئ الكريم ليس هناك أشد على الإنسان من منازعته لقمة عيشه وقوت عياله، وليس أكثر وقعاً على ابن آدم من أن يهان أمام زوجه وصغاره أو أن يشعر إزاءهم بالعجز عن تلبية متطلبات حياتهم الضرورية مع أنه رجل بكل ما تحمله كلمة الرجولة من معنى، وربما أنه حاصل على شهادات وله خبرات ومعه دورات كان من المفترض أن تضمن له نمطاً من العيش معقول، يتسق أولاً مع إنسانيته، ويتوافق ثانياً مع مستواه العلمي والاجتماعي و...، ولذا قد تتساوى الحياة مع الموت عند أولئك العاجزين عن نيل الكرامة المعيشية في عقر دارهم وفي وسط بلادهم التي يقبلون تراب أرضها حباً ووفاءً وعطاءً.
لقد أمر النص الشرعي بوجوب توفر عدالة التوزيع سواء على المستوى الفرد أو الأقاليم أو الجماعات والتي تعني إقامة منطق التوازن بين الجماهير في مستوى المعيشة لا بمقدار الدخل الذي جعله الله قدراً متفاوتاً بين بني البشر ولكن بجعل الفرص الوظيفية متاحة للجميع على قدم المساواة، والمال موجوداً ومتداولاً بين أفراد المجتمع ككل حتى يتسنى لكل فرد العيش في المستوى العام المقبول والمعقول والذي ينعت في مدونات الاقتصاد الإسلامي «بمستوى الكفاية لا الكفاف» وفي هذا السياق يمنع الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء فقط بل دورة الاقتصاد المحلي لا بد أن تنتظم في عجلتها كل الطبقات في المجتمع {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} الحشر 7 وفي ذات الوقت ينهى هذا الدين العظيم أن يسخر المال لتحقيق مآرب سياسية ويوظف من أجل مصلحة خاصة تضر بمصلحة الجماعة إذ يقول سبحانه: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ?البقرة 188 .
إن العقل السياسي العربي مدعو وبقوة - في هذا المنعطف التاريخ الصعب - للتأمل في النصوص وتقليب صفحات التاريخ، كما أن عليه سبر حركة الواقع وقراءة الشارع المجروح بكل منعطفاته وجميع اتجاهاته قبل أن تحل الكارثة وتكون المنازلة ويقع الفأس بالرأس، حينها تصير الموازنة مستحلية، ويصبح الحل في يد قوة الجماهير المقهورة الغاضبة في الشارع العربي الثائر و(العاقل من اتعظ بغيره) وإلى لقاء والسلام.