كتب - محرر مدارات:
كم هي كثيرة وساخنة تلك الزفرات الخارجة من أصدق وأعمق منطقة في القفص الصدري وربما دون رقابة من السيد (العقل) أو - هكذا يجب أن تكون - حينما يمر ما يحرض الآهة على التمرد، والزفرة على العصيان، والأنّة على التداعي ووحدهم المجانين والمحبون والشعراء يسمحون للصديق (القلب) أن يتجاوز الأنظمة، ويعلن الرفض والانقياد بطفولية عجيبة، هم من يهتفون للشتاء في حضرة الصيف، وللصيف في حضرة الشتاء، هم من يزرعون الفضاء ورداً، والأرض نجوماً وأقماراً، والجفاف ربيعاً. وهم من يشاركون بكل صدق وشفافية.
شاعرنا الفذ عبدالله بن سبيّل وهو يتداعى:
لو ان ما بي بالغصون الوريقه
غدنّ بيضٍ كنهن المشاريق
اخاف من موتٍ بليا حقيقه
مثل الدجيما لا طرد به ولا سيق
وكم من عاشق أمضّه العشق وأتلف روحه. التفت وهو يفارق من أحب على غير رغبة وربما إلى غير لقاء ووسيلة نقله تقطع الطريق المعاكس لرغبة العاطفة وهو يتمنى موجعاً لو أن عقارب الساعة تصاب بالخلل وتدور بشكل معاكس.. قال:
يوم الركايب عقّبن خشم ابانات
ذكرت ملهوف الحشا من عنايه
ليته رديفٍ لي على الهجن هيهات
أمّا معي ولا رديف (اخويايه)
ولأن الحب قيد وأي قيد.. لنا أن نتوقع من المحب أن يصرخ (آه من قيدك أدمى معصمي..) مع أنه فرح وممتن وفخور بذلك القيد الذي يتمنى أن يزيد احتكامه.
فالشفاء من الحب كما تروي سير الحب نفسه ربما بالإصرار على عدم الانعتاق منه وابن سبيّل بما يشف عنه شعره ملأ أودية نجد وفيافيها ومساءاتها وأسماع وقلوب ساكنيها أنيناً ولوعة:
مشعوف واذاري هبوب الرياحي
وحمل الهوى مافك عني ولا طاح
انا عليل الجوف لو قيل صاحي
عضض غلث وشاف له بارقٍ لاح
وعبدالله بن سبيّل ليس شاعر غزل فقط وقد يظلمه من لا يرى إلا أنه كذلك، وهو الذي يملك من تجربة الحياة ما يجعله يقول بكل اقتدار:
الرمح لو هو يطعن الخيل راعيه
ما صاب عكوزه الى اخطا سنانه
والمهتوي طرد المها ما يعنيه
كنه على زل العجم بعديانه
وسيل النحا ما ينعدل عن مجاريه
ولو يضرب السندي يكود اعلوانه
وبعين الراصد والمعبر كعادة الشاعر عما يجيش في قلوب الناس يؤكد أن نظرته ثاقبة وعينه فاحصة وهو القائل:
ما نيب من يضحك على غير مصلوح
يضحك لخلانٍ وهم كارهينه
المقفي اقفي عنه لو كان مملوح
والمقبل أرفع له شراع السفينه
وكثير من الناس يرى أن الشاعر بطبيعته وتركيبة شخصيته يتناول كل ما يحيط به بطريقة مختلفة تجمع بين الفلسفة والحكمة والذكاء والفطنة والشفافية. ومن لا يعرفه جيداً يظن أنه عالم من التناقضات وأنه ينقسم أحياناً على نفسه مع أن الشاعر وشعره حالات فهو هناك كما هو هنا إلا أن الحالة النفسية اختلفت:
إلى عزمت فحط للرجل مرقاة
من خوف يفطن لك حسودٍ ربادي
ولا تاخذ الدنيا خراصٍ وهقوات
يقطعك من نقل الصميل البرادي
لك شوفةٍ وحدة وللناس شوفات
ولا واديٍ سيله يسند لوادي
وهو كذلك من تدفعه فطرة المسلم الذي يظلل اليقين قلبه. والإيمان إحساسه أن ينادي بصدق:
يالعبد قيّس ما طرى لك على البال
دنياك لا تلهيك عن تبع دينك
واعرف ترى ما قسم لك ما به اشكال
يجيك لو كل العرب حاسدينك
والمال مثل الفي لابد ينزال
مرٍ عليك ومرةٍ في يمينك
وها هو يشف في مواجهة رائعة وصادقة مع النفس، بخوف المؤمن الذي يدرك المصير الحتمي لكل حي على هذه الأرض:
يا ناس يا ويلي من الموت ويلاه
يا كيف ابستانس وهو مقتفيني
يبي يعشّي بي مجوّع ضراياه
لو كان من قبلي سمينٍ بديني
أمّا قعد بالريع لين اني آطاه
ولاّ قعدت ولازم انه يجيني
وفي الختام أورد هنا إمضاء عبدالله بن سبيّل على شعره:
اليوم شبت وتبت عن كل ما فات
وطويت عن كل الموارد رشايه