|
جدة - صالح الخزمري:
عبّر عدد من الشعراء والأدباء والنقاد عن حزنهم العميق لفَقْد الشاعر محمد الثبيتي، وعدُّوه خسارة على مستوى الوطن العربي.
في البداية يقول: - د. عبد الله عسيلان، رئيس نادي المدينة الأدبي:
لا شك أن الشاعر محمد الثبيتي من الشعراء اللامعين في المملكة، وشهد له القاصي والداني في تألقه وإبداعه في مجال الشعر، ومثل هذه الشخصية فقده له تأثير كبير في نفوس المحبين للأدب والثقافة وللشعر. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويلهم ذويه الصبر والسلوان.
والذي أريد أن أعبّر عنه هو أن تهتم الأوساط الأدبية والأندية الأدبية بتراث هذا الشاعر نشراً وتعريفاً ونقداً، والإشادة بمجهوده في مجال الشعر.
أما الشاعر د. حمزة الشريف فقد رثى الراحل بالأبيات الآتية:
تنوح البيد والأقطار
يا علماً فقدناه
ينوح الحبر والأقلام
تنعي يوم ذكراه
مضى وهج القوافي
تسرع الأيام في ممشاه
صهيل الحرف شق الليل
فضت صدره الآه
وفي إبداعه كلم
يعانق ما كتبناه
ثبوت محبة رسخت
ويبقى نقش نجواه
تضاريس من الأشجان
حب بث فحواه
رحيل في جوانحنا
نظل العمر نرعاه
ويوم وداعه شجن
إلى زمن سنلقاه
وأوضح الشاعر إبراهيم مفتاح بقوله:
الشاعر محمد الثبيتي - رحمه الله - أحدث منعطفاً جديداً في الشعر السعودي وفي الشعر العربي بصفة عامة؛ فقد كان بالنسبة إلينا نحن شعراء المملكة يُشكّل مدرسة حداثية، ولكنها حداثة تلبس إطار الأصالة، وقد كان - رحمه الله - نقطة تحوُّل في مسار الشعر السعودي بل إنه أحدث مدرسة جديدة للآتين بعده، وأصبح الكثير - خاصة من الشباب السعودي - ينتهجون نهجه، ويحاولون تقليده، وإن كان بعضهم قد اتخذ لنفسه مساراً خاصاً، ولكن مع هذا يبقى الشاعر الثبيتي قمراً في جبهة الشعر السعودي.
ومما أذكره له أنني قد جمعتني به لقاءات عدة في كثير من المناسبات، ولا أدعي أنني قد اشتركت معه في أمسية شعرية، ولكن كانت تجمعنا جلسات ثقافية.
وأبرز ما أذكر له زيارته لجزيرة فرسان مع توأمه عبد الله الصيخان، ليلتها أذكر أن ساحل فرسان بكل جمالياته قد ارتدى حلة جديدة وثوباً شعرياً لم تعهده الأسماع من قبل.
رحم الله شاعرنا محمد الثبيتي، وأفضى عليه رضوانه ورضاه.
أما الشاعر المصري سمير فراج فقد قال:
في غنائية هامسة بعيدة عن صخب الإبداع، وعبر صوفية شفيفة وذاتية خافتة، تبزغ حيناً وتتوارى أحياناً، أسس محمد الثبيتي لقصيدته.
جملته الشعرية قصيرة رغم استخدامه غالباً القالب التفعيلي الذي يعطي الجملة الشعرية مدى رحباً، فضلاً عن إمكانية التدوير؛ ما يجعلها شديدة العمق والتكفيف بعيدة عن الحشو والثرثرة، وهو تطبيق جديد على بنية القصيدة السعودية. ويُعتبر الثبيتي أحد مؤسسي القصيدة السعودية الحديثة؛ ليصبح فيما بعد مدرسة يتأثر بها الكثير من الشباب الشعراء في المملكة.
لقد شكّل رحيل محمد الثبيتي خسارة كبيرة للقصيدة العربية، ورغم غيبوبته الطويلة إلا أنه كان هناك أملٌ في صحوة تنتج قصيدة تضاف إلى رصيده الزاخر في الشعرية العربية، ولكنّ عزاءنا أنه أسس بالفعل مدرسة شعرية جديدة ناظرة بقوة، وكأنه ورث صوته الشعري للعديد من الأبناء.
ويقول الشاعر: عبدالله الخشرمي:
مِثْلُ محمد الثبيتي يصعب تأبينه، ويصعب الشعور بكامل الوعي أنه رحل عنا؛ لسبب في غاية الشعور هو أن أمثال هذه القامات المبدعة تمر نادراً على أي وطن، ومحمد الثبيتي يحيا بنصوصه وتضاريسه غائرة في جغرافيا الوطن، وعين في جغرافيا القلوب التي أحبته.
الثبيتي لا يؤبن؛ فأمثاله لا يؤبنون؛ لأنهم أحياء في ضمير كل وطني وكل من امتاح من نبع الإبداع وعرف مذاق المبدع.
وإذا ما ذكرت الساحة الإبداعية الشعر الحديث في المملكة وعلى مستوى الوطن العربي سيبرز وسيصعد كل منصف ومثقف حقيقي ومتابع على مستوى الساحة الثقافية ويقرر أن الثبيتي إحدى العلامات الفارقة والفارقة جداً في مسيرة الشعر الحديث في العالم العربي للعقود الثلاثة الماضية.
محمد الثبيتي جغرافيا تضاريسه كالجبال، لا يمكن إزاحتها بسهولة حتى ولو توالت عليها مشاريع الإزاحة أو محاولات التغيير.
وبالتالي فإننا لا نؤبن في هذا اليوم الثبيتي، ولكننا نكرسه حضوراً أبدياً في وجدان المبدعين والناشئة الذين يجب أن نُدرّس لهم إبداعات قامة شاهقة المعنى بمستوى الشاعر الحاضر الغائب عنا محمد الثبيتي.
الشاعرة ثريا قابل قالت في رثائها للراحل:
لا شك أن الساحة الفكرية فقدت شاعراً عظيماً لم يأخذ حقه كما ينبغي، وشعره الذي تركه سنعرف من خلاله أنه عاش مرحلة تقدمت عن زمنه؛ في شعره تأملات تعطي تأملات للحياة.
عزائي لأسرته وللفكر والثقافة في السعودية؛ فما من شك أنه كان بوصفه مرحلة فكرية في السعودية يُشار إليه بالبنان، وقد تجاوز عصره.
أما الشاعرة زينب غاصب فقالت:
سيد البيد.. لماذا تركت الرمل وحيداً؟
(تكاد تخامرني لهجة الموت،
أرثيك
يا امرأة ثكلتك المسافات..)
هكذا هي لهجة الموت أثكلتنا فيك يا سيد البيد، يا شاعرنا الجميل، يا عراب الرمل، يا صاحب البصمات الواضحة في هيكل القصيدة الحديثة، مضى شراعك ونحن كنا ننتظر شفاءك وتلويح أشرعتك من جديد؛ لتنقلنا إلى عالم القصيدة التي ما فتئت تدغدغك وأنت قابض على جمرها، ومذاباً في خمرها، تلقاء (مكة) تتلو آية الروح، مزملاً بالنور والتسبيح، شامخاً أمام بوابة الريح.
ها أنا أصدم مرتين، المرة لأولى عندما أُصيب بجلطة الموت وكنا قد عدنا سوياً من اليمن ضمن المشاركة في الأيام الثقافية السعودية هناك، وكان يملؤني الأمل بشفائه وعودته ليحيي في أرواحنا ضجيجه الشعري الملون بعذوبة النبض، وقوة اللغة، وشهوة البوح، وشفافية المضمون، ولكني اليوم أُصدم بخبر وفاته وأنا التي ما زلت أتذكر وأتخيل تحركاته، وحضوره، وما زلت - والله - أتخيله في آخر أمسية شعرية له في صنعاء أثناء إقامة الأيام الثقافية السعودية كما أسلفت في اليمن، وكان لي شرف المشاركة فيها بجانبه، وكنت فخورة وأنا أجلس بجانب هذا الأستاذ الذي تنبأ لي في بداياتي، بشأن شعري قادم، ويظهر أن بوادر الجلطة بدأت معه منذ ذلك الحين؛ إذ كان الإحباط من الألم بادياً على وجهه؛ فطلبت منه أن يقرأ قصيدة (تغريبة القوافل والمطر)، وبكل تواضع يحقق الأستاذ طلب التلميذة؛ لتضج القاعة بالتصفيق من المعجبين من الجنسين حتى خلع أحدهم ساعته إعجاباً وقدمها له، وهو منصهر في طقوس الوطن ورمله رامياً بالألم جانباً لأجل عينه. ما زلتُ أذكر تواضعه الكبير، وهو القامة الشعرية الرفيعة، التي تتلمذنا على منهجها، وحداثتها الباسقة، وهو يستمع إلى قصائدي في بهو الفندق منفرداً مع مجموعة من الشعراء والمثقفين، ضمنهم على ما أذكر (الدكتور سلطان القحطاني). كنت أشعر بأنه يعاني شيئاً ما برغم الابتسامة التي لم تفارق شفتيه، والحفاوة التي كان يحظى بها من زملائه المشاركين في البعثة، وعلى رأسهم معالي وزير الإعلام (د. عبد العزيز خوجة) ووكيله للإعلام الخارجي (د. بكر باقادر)، وحفاوة الإخوة في اليمن بشخصه خاصة.
تفاصيل كثيرة تختلط في مخيلتي لا أكاد ألتقطها الآن؛ فغصتي تخنقني بعبرات الحزن على هذا الإنسان الشاعر الذي أغمضت عيناه أبدياً؛ فلن تبوح للرمل، ولن تستشف الريح، وفاتنة البوح لن تبتليه ولن توحيه، فلماذا يا سيد البيد تركت الرمل وحيداً؟ وتركتنا نقتفي أثرك، فلا نكاد ندركك، لكنك ستظل في أعماقنا سيد الروح، وسيد البوح، وتضاريس الشعر وتغريبة القوافل النابتة من جذور أمطارك الساقطة على سماء تاريخك الربيعي بين فصول الحياة الشعرية المعتمرة وجهك الباقي في كل ملامح الوطن شعراً, وأدباً، وثقافة، باقية ما بقيت الحياة، تهتز بأوتار الشعر، وتكتب بوهج ذكراك الحاضرة في أعين المحبين. عزائي لأسرته خاصة، ولكل المثقفين والمحبين له داخل الوطن وخارجه. رحمك الله يا فقيدنا النبيل، ربما لن يجود الزمن بموهبة فذة مثلك. وها أنت تدرك فقيدنا (د. غازي القصيبي)، ولم تمضِ على وفاته خمسة أشهر وكأنكما تواعدتما على الرحيل. وها أنت يا عراب الرمل تغيب الآن في داخله مضرحاً بعطر شدوك على سطحه الطليق.
أما الكاتب د. زيد بن علي الفضيل فقد استهل رثاءه بالقول:
الثبيتي يسقط منتصب القامة على ثرى بيده..
رحم الله الشاعر المبدع سيد البيد محمد الثبيتي، الذي سقط منتصب القامة على ثرى بيده، التي حلم وتغزل ونافح عمره من أجلها، الشاعر المبدع الذي غاب عن أعين محبيه جسداً، وسيظل في أعماق كل متذوقي الأدب والإبداع شاعراً مبدعاً عميداً لأجيال شعر الحداثة والفكرة الخلابة. رحم الله الشاعر الثبيتي الذي غادرنا إلى حيث تستكين نفسه، ودون أن يُفرط في خصيصة ما اكتنزه في داخله من أدب وذوق فني رفيع، وليسامح تفريطنا نحن فيه، وليغفر لنا تقصيرنا كمؤسسات ثقافية في الاهتمام به بالصورة التي يستحق. نعم إنها الحقيقة المُرّة التي واجهها الثبيتي، ويواجهها غيره من صناع الكلمة وعاشقي الإبداع، وليسمح لي القارئ الكريم أن أتساءل: أهكذا تكون رعاية المبدعين في بلد العطاء والكرم؟ ألم يكن الثبيتي بما أنتجه من أعمال شعرية خالدة مستحقاً لاهتمام أفضل من قِبل مختلف المؤسسات الثقافية الرسمية بوجه خاص، ومن جميع المؤسسات الصحية المتخصصة في بلادنا؟ سامحنا يا سيد البيد؛ فقد شاءت إرادة الله أن تُبتلى ويزداد بلاؤك وأنت بين ظهرانينا، ونحن مكبلون إلا من الدعاء والتبتل؛ فليس بأيدينا نقلك إلى أفضل المشافي المتخصصة، وليس بأيدينا تهيئة الفرصة لتقديم أفضل أنواع العلاج لك، وأنت تعاني ويلات ما ابتلاك الله به. سامحنا يا مبدع الكلمة؛ فقد تعبت في مجتمع ليس للكلمة فيه قيمته المستحقة، وليس لمبدعيها أية أهمية، أمام سطوة المادة وجبروتها. وعزاؤنا أنك على الأقل ستبقى خالداً في ذهن كل مبدع فنان، شاخصاً بشعرك في آفاق الزمن، امتداداً لكل أولئك الخالدين من الأنبياء والصديقين والشهداء والعلماء والأدباء، وحسن أولئك رفيقاً.