نصح وزير الزراعة الدكتور فهد بالغنيم عموم المزارعين إلى عدم التوسع في زراعة نخيل التمور لوقف تدهور أسعارها في الأسواق المحلية. وتخضع المنتجات الزراعية، أسوة بالمنتجات الأخرى، إلى قانون العرض والطلب، فزيادة الإنتاج بحجم يفوق القدرة على تسويقه يعني مزيدًا من تدهور الأسعار ولا شك؛ الإنتاج الإغراقي، وضعف قنوات التسويق الخارجية يؤديان إلى الضغط على الأسعار، ويسهمان في زيادة حجم الفائض السنوي في المملكة.
هل تعاني المملكة من الإنتاج الاغراقي للتمور؟ وهل وصلنا بالفعل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وإغراق الأسواق الخارجية بمنتجاتنا المحلية؟.
كلا، فما زلنا بعيدين عن تحقيق ذلك. هناك فارق كبير بين تلبية الطلب المحلي على التمور، وبين تحقيق الاكتفاء الذاتي الإستراتيجي لمنتجات التمور كجزء رئيس من الأمن الغذائي. لا يمكن الاعتماد على الطلب المحلي الحالي كمعيار للاكتفاء الذاتي على أساس أن منتجات التمور لم تعد تمثل الغذاء الرئيس للمواطنين كما كانت عليه في العقود الأولى من القرن الماضي.
لذا يمكن القول: إن الطلب الحالي يجب إلا يؤخذ به في الخطط الإستراتيجية، خاصة المتعلقة بتحقيق الأمن الغذائي. فالمملكة تعتمد في غذائها على ما تستورده من الخارج، وتبقى مزارع النخيل المصدر الرئيس لتوفير جزء مهم من الاحتياج الغذائي في حال تأثرت الواردات الغذائية لأسباب مختلفة!. قد لا يحتاج كثير من المواطنين لمنتجات التمور في الوقت الحالي، وهو ما يؤثر في حجم الطلب المحلي، ويؤدي إلى إصدار معلومات مغلوطة عن الحاجة الإستراتيجية، إلا أن متغيرات الظروف قد تعيدهم قسرًا إليها؛ فالدنيا لا تدوم على حال.
من جهة أخرى، فزراعة النخيل تعاني من خطر «السوسة الحمراء» التي دمرت بساتين النخيل وأثرت في حجم الإنتاج الكلي، وعرضت المزارعين والمستثمرين لخسائر مالية فادحة؛ ما زلت أتذكر حديث الشيخ عبد الله بن سعد الراشد لوزير الزراعة، وشكواه من عدم قدرته على نقل أكثر من مائة ألف (فسيلة) سليمة، بسبب الحظر الوقائي الذي تسببت به «السوسة الحمراء»؛ وما زلت أتذكر شكوى المزارعين الدائم من عدم قدرة الوزارة على وقف انتشارها والقضاء عليها، وهو ما يهدد زراعة النخيل في المملكة. «عدم التوسع في زراعة النخيل» من جهة، وانتشار «السوسة الحمراء» وفتكها بالنخيل من جهة أخرى يعني التعجيل بفقدان أهم منتجاتنا الزراعية.
وفق النظرة الاقتصادية، لا تعاني المملكة من الإنتاج الاغراقي للتمور بقدر معاناتها من ضعف خطط التسويق، وعدم قدرتها على خلق صناعات تحويلية يمكن أن تستوعب ضعف حجم الإنتاج الحالي.
الاعتماد على السوق المحلية في التسويق أمر لا يمكن القبول به مع نمو الطلب العالمي على التمور، كيف يمكن ل»إسرائيل» تسويق منتجاتها الرديئة، وإعادة تصدير منتجات التمور العربية إلى أوروبا، اليابان، وأميركا، في الوقت الذي نعجز فيه عن إيصال منتجاتنا لتلك الأسواق المهمة.
معايير ومتطلبات التصدير هي ما تحتاجه صناعة التمور في المملكة كي تتمكن من غزو الأسواق العالمية، وهو ما يفترض أن توفره الدولة من خلال التوجيه والدعم. كما أن توزيع رقعة الزراعة بحسب نوعية الإنتاج وتوفير الأصناف المطلوبة محليًا، تمور «الدرجة الأولى»، والأصناف المطلوبة خارجيًا «الدرجة الثانية والثالثة» يساعد في تنويع الإنتاج بحسب الأسواق المحلية والخارجية وهذا يزيد من الصادرات ما يؤدي إلى خفض المعروض المحلي، ويوفر في الوقت نفسه كمية إستراتيجية يمكن استغلالها محليًا وقت الحاجة.
دعم صغار المزارعين المعتمدين على زراعة أصناف الدرجة الثانية والثالثة ومساعدتهم على تجهيز إنتاجهم وفق معايير التصدير العالمية وشحنها للأسواق الخارجية، إنشاء بورصة تمور عالمية بالمملكة، والتوسع في الجمعيات الزراعية ورفع كفاءتها، وإنشاء اتحادات التصدير يمكن أن يساعد في الجانب التسويقي ولا شك.
خلق الصناعات التحويلية، وتصنيع منتجات من فائض التمور، كالخميرة، الكحول الطبي، السوائل السكرية، الزيوت، المولاس، المحليات الطبيعية، دبس التمور، والأعلاف؛ إضافة إلى صناعة الحلويات التي أعتقد أنها المنافس الحقيقي لمنتجات الكاكاو هو ما يحتاجه الوطن، ومزارعو النخيل. تطوير صناعة التمور سيؤدي إلى زيادة القيمة المضافة للقطاع الزراعي، وسيسهم في خلق الوظائف، وسيحقق هدف التوازن في السوق وهو ما سيؤدي إلى استقرار الأسعار، وربما ارتفاعها بما يدعم مركز المزارعين.
النظرة الإستراتيجية المستقبلية تحتم علينا التعامل بحذر مع أهم مكونات أمننا الغذائي بعيدًا عن القرارات المتسرعة، والنصائح المضرة، التي قد تحقق الفائدة على المدى القصير إلى أن نتائجها البعيدة ستكون مؤلمة ولا شك.
من مسؤولية وزارة الزراعة تطوير جانبي التسويق والصناعات التحويلية للتمور، والاعتماد عليهما كخيار إستراتيجي لمواجهة فوائض الإنتاج.
توسع شراء الدولة لجزء من فوائض منتجات التمور وتقديمها كجزء من معوناتها الدولية أمر غاية في الأهمية؛ فهي ستحقق هدفي الدعم الخارجي للدول المحتاجة والداخلي لمزارعيها. دعم وحماية قطاع الزراعة مقدم على ما سواه من قطاعات اقتصادية أخرى، فالغذاء أهم من الأموال وأن كثرت.
القضاء على «سوسة النخيل الحمراء» يجب أن يكون هدف الوزارة الرئيس، ولو كان لي من الأمر شيء، لعهدت ببرنامج مكافحة السوسة الحمراء والقضاء عليها لشركة عالمية متخصصة بدلاً من فرق الوزارة التي لم تنجح، حتى الآن، في وقف انتشارها وتدميرها ثرواتنا الزراعية، على الرغم من الميزانيات الضخمة المُنفَقَة، والمدة الزمنية الطويلة التي تجاوزت عشرين عامًا.