كان الدرسَ الأول، أو الصدمة الأولى حين التقى الكاتبُ الناشئ بالكاتب الكبير وتجاور مكتباهما في الصحيفة فعرف فيه اللغةَ الثائرة التي تنتقد كل شيء في المساء فإذا قرأه في الصباح وجده هادئًا مهادنًا، وأحيانًا «مداحًا للقمر».
تخيله حاملَ الهم العربي والتغيير الإصلاحي ورجلَ المواقف والمبادئ، ثم عرف أنه بائع كلام؛ فلم يعد يأبه به، ولم تعد تستهويه مواعظُه، وآمن أن «البعد خير من القرب» بما يضاد نظرية «ابن الدمينة»؛ فلن يُكفر عن السوءة استعراضٌ وافتراض، ولا يكفي أن نُنَظر للصدق ونمارس الكذب، ونعتمرَ النقاء ونحن ملوثون بالتميع وغارقون بمكاسب الذات.
وبالمنطق نفسه نشهد الفجوة بين الحكي والفعل؛ فالجميع يتبارون في الغَيْرة على الوطن والحرص على المال العام؛ فإذا لاحت لأحدهم حاجةٌ غيرُ نظامية لجأ لمن يشرعنُها له؛ ما يجعل الحكم على الناس مرتبطًا بالتعامل معهم على مدى ممتد، وفيهم من يكشف عوارَه ومن يواري مساره.
لا فرق هنا بين ذوي الضوء وذوي الفيء، وإن ذاع خللُ من هم في الواجهة، وبخاصةٍ حين يتناقض الكاتبُ بين قضية وأخرى وخلال مرحلة وتاليتها، وعندما يستدير بزاوية عكسية ليثبت ما نفى وينفي ما أثبت، وإذا ظل يعزف على نغم منفردٍ دفاعًا عن موضوع أو اندفاعًا ضده؛ مسفهًا آراءَ سواه بلغةٍ لا تنتمي للعلمية والموضوعية بما تتطلبه من وثائق وحقائق، ولجماهير القراء طرح استفهامات على الكاتب حول المسافة الفاصلة بين انتمائه لمهنته واستجابته لإغراءات دوائر العلاقات العامة التي لم يعد خافيًا استفزاعُها ببعض الوراقين لتبييض أوراقٍ سوداء َورمادية.
قبل سنوات استأجر أحد الباحثين ثلاثةً من الشباب ليبحثوا في «دار الكتب المصرية» تناقضات الكُتاب خلال نصف قرن، ومن المؤكد أنه ظفر بالمثري والمثير، ولسنا بحاجةٍ اليوم لأكثر من زر لتنفتح المساحات عبر محركات البحث ولن نُفاجأُ بكم الاختلافات التي تتيح التساؤل والمساءلة بما فيها مَن سرق ومن سُرق منه، ومن مالت به الريحُ بين المدح والقدح، والهجوم والمهادنة، ومن يتجه - في سهامه - للحلقات الأضعف، ومن يرمي من الكتابة غنمًا أو يدفع غُرمًا.
كذا تجيء هواجسُ المجموع حين يجدون قضاياهم في دوائر جدليةٍ، وبين زوايا حدية يضيق معها المدخل والمخرج، وقد سبق للمفكر العربي الراحل (إدوارد سعيد 1935-2003 م ) توجيه بصيرة المثقف لمقاومة إغراءات السلطة والمال، وهنا يجيء الدرس الثاني والعاشر والمئة حول مفهوم «العيب» الغائب من تربيتنا الأولية رغم أننا نُدرس أبناءَنا في موضوعات التعبير: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله، ويا أيها الرجل المعلم غيره».
انخدعنا طويلاً للتمويه المتزيي بسيمياء ملائمة لما يطلبه «الجمهور»، وظل الشكل حصانةً تدرأ عن صاحبها تهمة التناقض، غير أن الزمن لم يعد يأذن بمزيد من التكاذب؛ فقد رُفعت السُدُم عن المسكوت عنه والمغفور له والمبرر لأجله.
يروى عن صحفي عربي ذائع في الستينيات أنه أخذ أُعطيةً من دولة مجاورة ثم لم يكتب ثناءً متوقعًا، وحين سُئل أجاب بأن تلك الأعطية مقابل صمته عن الهجاء وللمديح سعرٌ آخر، وما تزال الصورة تتكرر بأشكال جديدة.
الأمانة عبءٌ.